ومما قالوه في أمثالهم عن أهمية المال في تقييم الناس: الما عنده فلس ما يسوه فلس، أي أن قيمتك في أعين الناس تتحدد حسب ما تملك من أموال، ولذا ترى البغداديين يقولون عن الغني: فلوسه بعبّه والناس تحبه، في حين قالوا عن الفقير تحقيرا وتهكما أن: جيبه مضروب طلّسم، فهو لا يفتح أبدا للدراهم، ويقال؛ جيبه مضروب أوتي، في إشارة لخلوه من الدنانير، والكنايتان تشيان بمزاجٍ ساخر ارتبط بالفقراء منذ الأزل، فهم دائما عرضة للتهكم بسبب فقرهم وعازتهم، ترى الناس يقولون مثلا أن؛ الفكر يندل أهله، والفكر يخر من اذانه، بل إن مصطلح "الفكر" بات لا يعني الافتقار فقط إنما يتعدى ذلك لمعنى التشاؤم من المكاريد لجهة أن سوء حظهم قد يعمّ على سابع جار، وهم يقرنون هذا السوء بالجبين قائلين؛ فلان كصته فكر، وقد يقال أن؛ فلان فكري، بمعنى أن لا طموح لديه كي يغتني، و"الفكريات" كناية أخرى تطلق على كل سالفة تورث الهم والغم لسامعها، وعنها يكنون أيضا بالقول؛ سالفة مفاليس، كون سوالف الفقراء لا خير فيها، ولا تجلب غير "ضيجة الخلك"، ومرادفها في الجنوب قولهم عن كلّ شأنٍ غير نافع؛ "طلابة المفلس".
ومما قالوه عن افتقار المرء لأبسط حاجاته أن؛ فلان يتوضه بماي الغرشه، و"الغرشه" هي "الناركيلة" التي استعارها مظفر النواب محاكيا دوران الفلك؛ الدنيه غرشه وصم تتن وتدور بينه ونلتف. ومعنى كناية؛ يتوضه بماي الغرشه، أن أفتقار المرء قد يصل حتى للماء الطاهر الذي يتوضأ به، ولذا قد يستخدم مياه الناركيلة، الأصفر ذا الرائحة النتنة، كما جرى مثلا لبطل فيلم"صرخة نملة"، أعني ذلك المصري الغلبان الذي يصحو يوما فيجد أنهم قد خصخصوا مياه الإسالة، فيضطر لغسل وجهه بمياه "غرشة" صديقه.
الحق أن الذهن الشعبي أبدى قسوة عجيبة تجاه الفقير حين قارنه بالغني، فالناس تقول مثلا أن "الغني يغنوله والفقير يعفطوله"، وقريب منه قولهم عن المكرود أنه؛ ما يملك الهلله، والحق أنني لم أعرف المقصود من الكناية رغم ترجيحي أنها قد تشير لمعنى أنه لا يملك حتى أن يقول؛ أهلا أهلا. وقرينتي على ذلك قولهم عن الفقير أيضا أنه؛ بطرك المرحبه، أي انه لا يملك سوى الترحيب بضيفه. كذلك تراهم يقسون في وصف المسكين قائلين على لسانه؛ شياخذ جلبك من بيتي؟ بمعنى أن المسكين إذا ما خوصم في أي إمر، مادي أو معنوي، فلن يأخذوا منه حقا ولا باطلا، ذلك أنه مستفلس و"ضاربه الهبري"، وأصل الكناية الأخيرة يرجع إلى ما يسميه الريفيون بـ" التهبزر" أي تشذيب الأشجار قبل موسم اللقاح، ولذا يوصف الفقير بـ"مهزر" أيضا، أي هو كشجرة شذبها القوم فصارت عارية "ضاربها الهبري". وعدا ذلك، قد يظهر الناس قسوة رهيبة على صاحبنا حين يصفونه بـ" الحثلك"، أي الحثالة ولعلهم نعتوه بالـ"سحالة"، وهي ما يتبقى من الدقيق بعد هرسه، ومنها صاغوا تشبيههم للساقطين والتافهين؛ مثل السحاله بالطبك، فهي لا تكاد ترى ويمكن أن تطير لمجرد النفخ عليها.
الفقير أيضا كذلك، فهو مجرد؛ سحالة بالطبك، لا يرى إلا بالعين الصغيرة، إذا حان وقت "الصفع"، تراه في أول القائمة ولهذا قالوا أن؛ السطرة بعلبة الفقير، أي أنه الضحية الأولى لأي اعتداء يقع على الناس؛ فجأة، بينما هو في أمان الله، إذا بالكف تقع على رقبته والسيف يطال بطنه، فتذهب دماءه ويروح بالرجلين، ولا يبعد عن هذه الكناية قولهم في أخرى؛ الرمح بـجعب النكضان، أو بـ.....النكضان، ففي المعارك، عادة ما يتأخر المتعبون ويكونون في الصفوف الخلفية، فإذا ما هجم العدو، لم يجد أسهل من استهداف طـ...... المكشوفة أمامه.
نعم، الفقراء هم المسهدفون دائما، فجنبنا اللهم الرماح واحفظنا من"السطرة" والطعنة والكنايات الساخرة، إنك سميع الدعاء.
|