الطائفية في الوطن العربي ،تعريفها ، واسباب ظهورها دراسة سيكولوجية- اجتماعية |
قدم مركز دراسات الوحدة العربية عبر تاريخه الطويل ، ثروة من الدراسات والبحوث في معالجة الكثير من القضايا والاشكالات التي تتعرض لها الامة العربية بمختلف اوطانها . يكفي بعض من هذه الدراسات ، لو توفر ت الارادة عند صاحب القرار العربي ، لان تشكل ارضية لحل جميع المشكلات المتعلقة بالتنمية ، وحيازة القوة ، وتحقيق الاستقلال الفعلي والتخلص من التبعية بل وتحقيق الامن الوطني والسلم الاجتماعي . لذلك كانت الحلقة النقاشية لموضوعة " الطائفية والمذهبية واثارهما السياسية " التي تم نشر اوراقها في العدد408 ،شباط 2013 ، تشكل صدمة واقولها بقوة انها صدمة ، فهي دون مستوى كل الندوات التي عودنا عليها المركز لقضايا اقل اهمية وخطورة من قضية الطائفية . فمن قراءة الاوراق المقدمة ، يكتشف القارئ ان ورقة سليمان تقي الدين هي المحاولة الجادة الوحيدة التي تميل للاقتراب من المشكلة . اما ورقة انطوان مسرة ورغم انها معنونة " ما معنى الطائفية وكيف ندرسها اليوم " لاتقدم لا تعريفا بالمشكلة ولا بالمنهج العلمي السليم لدراستها ، فهو تركز على الاشارة الى بعض فقرات القانون اللبناني التي تشرعن الطائفية دون ان يكتسب القارئ منها اي معرفة جديدة لموضوع المشكلة ، تعريفها كموضوع اكاديمي يمكن ان يخضع للدراسة ،او اسبابها ومظاهرها . فقد ركز الكاتب على عرض ومناقشة مبهمة لمجموعة من الفقرات التي تشرعن الطائفية دون ان تمثل اي اضافة جديدة لفهم الظاهرة بما يمكن الباحث من التعامل معها او معالجتها . البحث الاخر والرئيسي الذي قدمه فالح عبد الجبار يعكس حالة تيه منهجي في معالجة الظاهرة ، رغم محاولة الكاتب اضفاء صفة اكاديمية على مقالته من خلال اشاراته المتكررة لمصطلح " الدراسات الاكاديمية ، العالم الاكاديمي " للايحاء بخضوع الدراسة لمناهج البحث العلمي . الا ان القارئ سرعان ما يلاحظ ان الكاتب ضاع او تاه في مناهج غربية غريبة لاتضفي اي معرفة موضوعية جديدة للظاهره بل ودخل في متاهات تجعل من العصي على القارئ فهم الظاهرة ولا حتى تعريفها بشكل علمي منهجي يطوعها للدراسة والبحث بامل الوصول لعلاج او حلول ، بالعكس توحي الورقة وكأن الطائفية حالة مرض اكتسح المجتمعات العربية بفيروس غريب لااحد يعرف له اصل ولا حدود ، كما هي حالة فيروس الايدز . سنتوقف في هذه المقالة على متابعة ما ورد في مقالة الاستاذ فالح عبد الجبار . ينطلق الكاتب من فكرة اختارها لتكون مدخل لمقالته ولتعطي القارئ الانطباع ان الكاتب كان قد اطلع على كل الدراسات التي عالجت مشكلة الطائفية ، تلك التي صدرت باللغة الانكليزية في الغرب . لينتقد ندرة او انعدام مثل هذه الدراسات في الوطن العربي . تستوقفنا الملاحظة على حقيقيتين ، ان مراجعة الدراسات التي قال بها الكاتب لاعلاقة لأغلبها بالحالة العربية ، باستثناء ما ورد منها تحت عنوان (مراجع الحالات العربية – الدول الاسلامية -) ، وهي لاتعكس ، ايضاً ، حقيقة ما كتب عن المشكلة باللغة الانكليزية ، والسؤال هنا او الملاحظة المهمة ان الكاتب ينطلق من واقعة تعكس جهله كلياً بمئات الدراسات التي صدرت باللغة العربية لمناقشة موضوعة الطائفية في الوطن العربي والعراق خاصة ، سواء نظرنا لها باعتبارها ظاهرة معزولة عن توجهات الاسلام السياسي او كمرحلة من مراحل تطور الاسلام السياسي الذي بدا يتخذ في السنوات الاخيرة تمايزواختلاف داخلي على اساس التفسيرات الفقهية المختلفة للشريعة الاسلامية مصحوبة بشحنات تعصبية عدوانية في كثير من الاحيان .واذا اخذنا بطريقة فالح عبد الجبار الذي ادرج تحت عنوان مراجع عامة ( لادخل في الحقيقية لاكثرها بالحالة العربية )ويعود تاريخ بعضها الى عام 1806 ، وأعوام 1835،1837، 1854 ، مايسمح لنا بذكر ما كتبه جورج انطونيوس عام 1937 في كتابه " يقظة العرب "عن توجهات السلطان عبد الحميد وخططه لاذكاء الطائفية ومشاغلة الرعايا العرب بالخلافات الطائفية البينية ، لمنع ظهور حركة قومية عربية تهدد دولته ، والكتاب مكتوب بالاصل بالانكليزية وبزمن احدث من المصادر التي اوردها الاستاذ فالح . وحول ما كتب بالعربية وما يخص الحالة العراقية لايمكن تجاوز ما كتبه الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء بالعربية في المقدمات السبعة لكتابه ( اصل الشيعة واصولها )، المنشور عام 1957 ، وما كتبه الشيخ احمد الوائلي في كتابه عن هوية التشيع ، اضافة لكتابات ومعالجات الدكتور علي الوردي المنتشرة على امتداد مؤلفاته العديدة . ومن الصعب حصر ماكتب بالعربية عن الطائفية بمقال محدد ،وامامي الان في مكتبتي المتواضعة اكثر من 69 دراسة تعالج او تناقش مشكلة الطائفية كظاهرة مستقلة قائمة بذاتها اوامتداد وشكل من اشكال تطورالاسلام السياسي، اي كجزء من ظاهرة التدين او ما يسمى بالصحوة الدينية . شارك مركز دراسات الوحدة العربية نفسه بنشر الكثير من الدراسات عن الظاهرة ، ضمن ندواته وحواراته عن الظاهرة ومناقشات مجموعة من الباحثين ، نشرت تحت عنوان "الدين في المجتمع العربي " عام1990 ،والكتاب يضم الكثير من الدراسات العلمية والملتزمة بمناهج على الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي .كذلك الدراسة التي كتبها الدكتور عبد الحكيم ابو النور ونشرها المركز تحت عنوان "الحركات السلفية في المغرب" عام2009 . وما يتعلق بالظاهرة في العراق كتب موسى الحسيني " ساطع الحصري والخطاب الطائفي الجديد "، عام 2000 ، وعام 2006 ناقش الظاهرة من خلال كتابه عن" المقاومة العراقية والارهاب الاميركي المضاد" . ودراسة بعنوان "المرجعية الشيعية والسياسة في العراق " نشرت بحلقات في جريدة القدس العربي في شهر حزيران عام 2006 . كما ناقش احمد الكاتب الموضوع في عدة كتب وخصص لها كتابا خاصا نشره بعنوان ( السنة والشيعة : وحدة الدين) 2007 ورشيد خيون ( لاهوت السياسة : الاحزاب الدينية المعاصرة في العراق ) عام2010 . وكتب الدكتور فاضل الانصاري " قصة الطوائف : الاسلام بين المذهبية والطائفية " عام2000 .اضافة لعشرات او مئات اخرى من الدراسات التي قدمها باحثين وكتاب من مصرولبنان واقطار عربية اخرى .هذااضافة الى الدراسات العديد التي مافتئت تنشرها المجلات العلمية المتخصصة عن موضوعات علاقة الدين بالسياسة والطائفية كامتداد لها. سنخصص لها جردا في اخر المقال وبحدود ما موجود في مكتبتي المتواضعة . فالامر لايتعلق بعزوف الكاتب العربي عن متابعة الظاهرة ، دراسة وتحليلا ، بل بتقاعس او سوء متابعة فالح عبد الجبار نفسه ، لعل لعقدة التماهي بالاجنبي و نزعة الشعور بالدونية امام ماهو غربي او اجنبي التي يعاني منها بعض المثقفين العرب ، كانت هي وراء زعمه هذا ( مصطفى حجازي ، 1992 ) . تعكس الكتابات المنشورة باللغة العربية ، تجربة شخصية مباشرة لمن كتبوا عن الموضوع كما عايشوه او تفهموه وتفاعلوا معه. قد يكون بعضها مشحون بشحنات عاطفية ، تسيطر على موقف هذا الكاتب او ذاك من الموضوع الا انها تعكس بالنهاية تجربة تعايش عن قرب ومن الداخل ، بدقة وتفاصيل كثيرة، تنفع في فهم الظاهرة اكثر من اي دراسة اجنبية. حتى مع الاقرار ببساطة المناهج التي اعتمدها بعض الكتاب العرب ، فانها تعكس تجربة تفاعل فيها الكاتب مع الظاهرة ، انفعل بنتائجها ، ملامسا حتى في حالة انحيازه ، جوهرها ، بينما ينظر له الكاتب الاجنبي من منظار صلتها او مساسها بالمصحة القومية لبلده دون ان يعيشها من الداخل ، وقد يتجرد أحيانا من الموضوعية في تحليلها . لو تركنا مسالة المراجع والمصادر وهي بداية تؤشر الى حالة التيه في متابعة الظاهرة من خلال دخول الكاتب من المدخل الخطأ لسبر جوهرها ،وحاولنا الغور بما قدمه فالح عبد الجبار من مادة تتعلق بظاهرة الطائفية ، لوجدنا ان الكاتب وهو يحاول الايحاء كما يحب بالاشارة في مواقع عدة بالتزامه بالمنهج العلمي او الاكاديمي ، الذي يفترض ان ينطلق على اساس تعريف الظاهرة او المشكلة باكبر قدر من الوضوح والدقة ، وعرضها بابعادها المختلفة التي تؤثر في طبيعتها او ماهيتها وحتى المظاهر الفرعية لها ، ثم تحديد الهدف من البحث ، ليتم على اساس ذلك معالجة المشكلة بما ينفع في فهمها ليتولى من يريد من المعنيين اشخاص ومؤسسات الاستفادة من نتائج البحث في معالجة المشكلة . الا ان الملاحظة على ورقة فالح عبد الجبار لاتتوفر بها لا شروط البحث الوصفي للتعريف بالظاهرة ، ولا البحث التحليلي الذي يشرح الظاهرة ويعرض اسباب تشكلها بهذا الشكل او ذاك . يدخل الكاتب كما قلنا من مدخلاً جانبيا أو البوابة الخطأ ، من خلال تيهه في تعريف الظاهرة بسبب اندهاشه بالدراسات الاجنبية على ما يبدو . لاشك يدرك اي باحث او مثقف ان دراسة اي ظاهرة اجتماعية تبدأ بتعريف الظاهرة الخاضعة للدراسة ومعرفة ابعادها واشكال انعكاسها على الواقع والتاثير به . في حين يبدا الكاتب الاستاذ فالح تعريف الطائفية بعبارة : " يتفق العالم الاكاديمي على ان الهويات الدينية الجزئية ( الطائفية )تقوم على عدة ركائز " ولم يخبرنا بحاشية على الاقل من هو هذا ( العا لَم) ، ولو جزء منه او حتى اسم باحث واحد فقط ، ثم نراه يحشر قسرا مصطلحات لاعلاقة مباشرة لها بالتعريف مثل (الامة – الدولة ، الهويات الاجتماعية – الطبقات - ، القبائل ) ليدخل القارئ في فوضى من المفاهيم التي تحتاج كل منها وقفة خاصة لنعرف على الاقل ما علاقتها بالمفهوم المقصود تعريفه . حتى انه يقع في خطأ استخدام مفهوم الدولة - القومية لتصبح بالنسبة له ( الامة – الدولة ) . وثالثة الاثافي في تيه الكاتب وضياعه في تعريف الطائفية هو ما اورده من نص غريب ومبهم عن علاقة القبيلية والطبقات بالطائفية ، فيقول : " وثالثهما ان الهويات الدينية الجزئية تنشطر بتاثير التنظيمات الاجتماعية ( قبائل وطبقات ) او هي التي تشطر هذه التنظيمات " ، وبغض النظر عن هذه اللغة الانشطارية العجيبة التي تكون فيها الطائفية عامل انشطار وربما عاملا منشطر ، ايضاً، خاضع لتاثير الطبقات والقبائل ، بوقت واحد . فاين هو الصحيح لنعرف ماهية الطائفية وطبيعتها . هذا مع ان الكاتب كان قبل سطر واحد فقط وخلال محاولته تعريف الطائفية وفقا لما اتفق عليه " العالَم الاكاديمي " لتعريف الحالة : " وثانتيهما :تسييس هذه الهوية كوحدة للفعل الجمعي كبديل من الهويات الاجتماعية ( الطبقات )" . اي ان الهوية الطائفية البديل عن الهوية الطبقية في ثانيا تتحول الى عامل تابع قابل للانشطار بفعل الطبقات في ثالثا . أي ان القارئ يقع في متاهة ما يشبه حالة "الدور الفلسفي " . فالطائفية كبديل عن القبلية والطبقات ، تعود للخضوع ثانية لعاملي الطبقات والقبلية ، فتتاثر بهما . بما ينفي صفة البديل عنها . الطائفية ببساطة ، وبعيدا عما اتفق عليه " العالم الاكاديمي للكاتب فالح " ، هي ميل فردي او اجتماعي لتفضيل تفسير محدد او مدرسة فقهية محددة لدين او مذهب على غيرها من الاديان او المذاهب ياخذ بتاثير ظروف اقتصادية – سياسية ، صفة تعصبية تتداخل مع مفهوم اعتبار الذات في تفضيل ابناء نفس المذهب او الدين على غيرهم من المنتمين لمذاهب او اديان اخرى ، تتصاعد هذه الميول احيانا الى حد تتخذ فيه اشكالا عدوانية تجاه المذاهب او الاديان الاخرى ، وميل للنبذ والرفض وحتى العزلة عن الاخرين . اي هي نتاج تفاعل عوامل سياسية – اقتصادية – اجتماعية ذات مساس مباشر بحياة الفرد اليومية ،امتزجت مع تهديدات امنية للهوية الثقافية للمجتمع ، لتشكل توجهات اجتماعية تعصبية نحو الاخرين الذي يختلف معهم الطائفي في تفسير الشريعة او المعتقدات الدينية. الا ان الملاحظ ان الاستاذ فالح يعالج المسالة بمجموعة من المفاهيم الغامضة التي تحتاج بدورها للتعريف لفهم اثارها وعلاقتها بالمشكلة موضوعة البحث . نعتقد ( كما مر ذكره في اعلاه ) ان السبب هو ما وقع به من خطأ منهجي بالاعتماد على المصادر الاجنبية التي مهما ارتقت في تحليلاتها تظل اقل سبرا لحقيقة مشكلة لم يعيشها او يتعايش معها كاتب اجنبي ، بل سمع او قرا عنها ، فوقع الكاتب بخطأ تبني تعريفات هي اقرب للحذلقات اللفظية منها للتعريف العلمي الاجرائي او الاكاديمي . ويبدو انه هونفسه الاستاذ فالح لم يقتنع بما قدمه من تعريف للطائفية . لذلك راح يغرق بمتاهات و خلط واضح للكثير من المفاهيم عن الدولة السلالية التي يجب تميزها عن الدولة الحديثة التي ركز الكاتب على ان فشلها في ترضية حاجات الانسان العربي . فالدولة السلالية كما يرى : "وهي بلدان – سلالات ترتكزعلى الدين - وهي بالتالي مولدة للانقسام الطائفي " ( ص :15) في محاولة لتميزها عن "الدولة الحديثة التي تتسم بشرعية دستورية او شرعية ثورية – ذاتية ،فهذه الاخيرة هي المصابة بلوثة الاحياء للهويات الجزئية " (ص15) لكن القارئ لم يفهم ما هو الفرق بين ( توليد الانقسام الطائفي ) في الدولة السلالية ،و ( لوثة الاحياء للهويات الجزئية ) في الدولة الحديثة كي يعرف ادوار كل من اشكال هذه الدول في ظهور الطائفية بوضوح في السنوات العشرة الاخيرة بعد احتلال العراق عام 2003 ، رغم ان الكاتب يقر في مكان اخر ان الطائفية لم تبلغ "مدى هائل من التسيس والعسكرة " "الا بعد الاحتلال الاميركي "(ص:22). لكن دور هذا الاحتلال يختفي كليا عن الصورة في جميع الابعاد والمنابع والدول السلالية او الامة – الدولة وغيرها من المصطلحات التي تبدو وكأن الكاتب اراد ان يخبأ خلفها جهله الاكاديمي بالموضوع . هذه الاشارة الى الاحتلال كانت الاشارة اليتيمة الوحيدة لاي اثر للعامل خارجي يمكن ان يكون قد لعب دورا في اذكاء روح الطائفية . الظاهرة كما يوصفها الكاتب هي نتاج عوامل وظروف محلية تراثية ، ثقافية ، اقتصادية ، ادارية –امنية ،كما لا تبتعد ايضا عن حقل التعليم والحقل السياسي والايديولوجي ، وحتى المواطنة . ولم يترك فالح عبد الجبار ظاهرة من ظواهر الحياة الاجتماعية الا وادرجها كي يضفي على تشكل الطائفية وظهورها بهذا الشكل العدواني – المسلح ، عوامل محلية – ذاتية خالصة تعود الى ما سماها : " المنابع الكامنة لتسييس الهويات الطائفية ، نعني مصادر تحويل هذه الاخيرة من هويات ثقافية صرفة الى هويات سياسية – ايديولوجية تحل محل الايديولوجيات الحديثة في الفضاء السياسي الفكري العربي وخارجه ايضا ." . ثم يردفها مباشرة برفض ان يكون " تحديد هذه المنابع الكامنة للتسييس يفسر هذا التسييس بالمرة ، فهذا التسييس ظاهرة حديثة تماما " (ص :21 ) . نفس اسلوب الكاتب بالقول بالشئ وضده . لايدري القارئ لماذا اذا يصر الكاتب فالح عبد الجبار على تفسير الطائفية على اساس منابع لا تفسرها ، كما يقر هو . ولم يحاول البحث في الاسباب الحقيقة . واي منهج اكاديمي بامكانه تبرير ذلك ..!؟ كما لم يوضح الكاتب لماذا بدأت هذه المنابع ، وهو يؤكد على وجودها على امتداد التاريخ ، باعطاء ما نراه من نتائج تفشي الطائفية بصيغتها العنفية العدوانية التي نراها عليها الان . فما دامت هذه المنابع موجودة لماذا لم تظهر نتائجها في القرن الماضي او حتى في فترة ما قبل احتلال العراق عام 2003 .
نفس التناقض غير المفهوم يقع فيه الكاتب مباشرة في الفقرة التالية لموضوعة المنابع . فهو يرى هنا : " ينبغي ان تتمحور منهجية دراسة الطائفية المسيسة حول الدولة كفاعل اساسي لجهة وظائفها وسياساتها وتوجهاتها " . لكنه يعود مباشرة في الفقرة التالية ليتكلم على قدرة الدولة على " نقض وتجاوز واحتواء كل القوى الجزئية ". ويتوصل بالنهاية الى " نحن نرى ، كما اشرنا ان الطائفية كحدود ثقافية للجماعات كانت سابقة لنشوء الدولة الحديثة " ، اي عادت الدولة الحديثة لتحوز على صك برائتها من ان تكون سببا لظهور الطائفية السياسية بعد ان كانت هكذا على امتداد الصفحات الثمانية الماضية ، هي السبب الاساس في ظهور "لوثة الاحياء للهويات الجزئية " (ص :15 ) .الا اذا كان الكاتب قد عاد عن اعتبار الطائفية من الهويات الجزئية التي حددها خلال تعريفه للطائفية . ان الامثلة على القول بالشئ وضده ، والتيه بمصطلحات غريبة وغامضة لتبرير ظاهرة الطائفية في الوطن العربي في ورقة فالح عبد الجبار ، كثيرة تكاد تصادف القارئ في كل صفحة ، نكتفي بهذا القدر الذي ذكرناه ، اختصارا للحديث بقدر ما تسمح به مساحات النشر . ان الطائفية كظاهرة اجتماعية وحركة سياسية لايمكن عزلها باي شكل من الاشكال عن موجة التدين او التاسلم : اي استخدام الدين في السياسة لتحقيق اغراض دنيوية لادخل لها بالدين او حسابات الاخرة . فهي حالة تدين تتمسك بتفسيرمدرسة فقهية واحدة للدين ، باعتباره التفسير الوحيد المعبر عن الشريعة او تعاليم الدين واساسيات تعاليمه، وان كل ما عداهذا الالتزام الاحادي بمذهب او دين محدد يمكن ان يندرج تحت مفهوم الخروج على الدين او الشريعة عندما تكون هوية جزئية .
يوصف فالح عبد الجبار الطائفية على انها هويات دينية جزئية ، اي ان الدين هو الاصل ، بما يعني لايمكن مناقشة الطائفية كهوية جزئية بفصلها عن الاصل ، ونعني موجة التدين او التوجهات الدينية التي غزت الساحة العربية ، فهي ، أي الطائفية ، جزء من الظاهرة الام او الاكبر – ظاهرة التدين - ، التي راحت تتطور بفعل عوامل عدة الى تمسك الطائفيين بتفسير احادي من الاجتهادات المذهبية باعتبارها الاكثر تعبيرا عن الدين ، ورفض الاجتهادات الاخرى باعتبارها تمثل حالات انحراف عن جوهر الدين . اي ان الطائفية يجب ان تدرس على انها جزء من ظاهرة التدين اتخذت خلال تطورها مظهرا تعصبيا عدوانيا . فهي ميل او توجه اتخذ صفة اجتماعية ليعبر عن ازمة يعيشها المجتمع . ومعرفة اسبابها ومظاهرها لايمكن ان يتحقق الا من خلال دراسة مناهج علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع عن تشكل وشيوع ما يعرف بالميول او التوجهات الاجتماعية ، ولماذا تتخذ احيانا اشكالا تعصبية تميل الى العدوانية او النزوع لعزل الاخر او الانعزال منه (معتز سيد عبد الله ،1989). هناك الكثير من التفسيرات التي وان ركزت على الجانب السياسي او الاقتصادي في اسباب الازمة الا انها لاتخفي انعكاسات هذه العوامل على سيكولوجيا الانسان العربي ، لذلك لاازعم الانفراد باكتشافها او القول بالاسباب النفسية كعامل اساس لظهور الميول او التوجهات الدينية بهذا الحجم الواسع ، ما سبق ان بحثته في دراسة لنيل شهادة الدبلوم العالي بعلم النفس الاجتماعي ، في مدرسة لندن للعلوم الاقتصادية والسياسية ، تحت عنوان " الاسباب النفسية للثورة الدينية في الشرق الاوسط " ، عام 1983 والتي توصلتُ من خلالها الى ان اهم تفسير لشيوع الظاهرة الدينية ،يجب البحث عنه في تراكم مشاعر العجز والاحساس بالضعف والفشل ، والاحباط ، والخوف ( او انعدام الشعور بالامن ) التي بدأت تضفي بظلالها على المواطن العربي بعد نكسة حزيران عام 1967 . رغم ان عبد الناصر بلاءاته الثلاث واصراره على المضي بالحرب الى نهايتها حتى تحقيق النصر ، تمكن من تهدئةهذه المشاعر خلال الثلاث سنوات الاخيرة من عمره ، لكنه لم يلغيها او يطمنها كليا ، فكانت تظهر نتائجها في المظاهرات الاحتجاجية لطلاب جامعة القاهرة عام 1968 . وظهور بدايات الحديث عن لماذا تخلى الخالق عن نصرة المسلمين . برزت هذه المشاعر وما تبعها من تساؤلات لتضغط بشدة بعد نجاح السادات والغرب في تحويل نتائج الانتصار المحدود في حرب 1973 الى سلوك مهزوم يريد الاتفاق مع العدو وارضائه باي صورة واي ثمن . فكان ان بدا الانتصار العربي المحدود يظهر بصورة الهزيمة امام عدو حقق كل ما يتطلع اليه من تنازلات بدون مقابل . تميل سيكولوجيا الاحباط ،المتفاعله بعوامل الاحساس بالعجز والفشل والضعف والخوف الى التشبت بالامال التي يمكن ان يقدمها لها اي حدث يعزز الامال الى احتمال التخلص من ضغط الحالات السيكولوجية هذه وتحقيق التوازن والاستقرار النفسي . فكانت الامال التي تشكلت بنجاح الثورة الاسلامية في ايران كبيرة بحجم تفاعلات الخيبة العربية ، تجاوز التاييد والتهليل بالثورة الايرانية كل الخلافات المذهبية وراح الاسلاميون العرب يتوافدون على طهران لاعلان الوفاء والالتزام بمبادئ الثورة والدعم المطلق لها . لم يطول الوقت لتتكسر هذه الامال بطريقة احباطات جديدة قوية هذه المرة مع اندلاع الحرب العراقية – الايرانية وانشغال اكبر واقوى دولة اسلامية بالحرب مع اقوى دولة عربية . ثم جائت ثالثة الاثافي في حرب الكويت بنتائجها الكارثية ليس فقط على اقوى دولة عربية كانت محط امال وانظار الكثير من العرب ، بل لتقضي على المفهوم البائس لما عُرف بالتضامن العربي ، انتهاءً بحرب احتلال العراق عام 2003 . رافق كل هذه التطورات ما ظهر في الحياة اليومية من تطبيقات حرب النجوم ، وسائل الاتصال والتواصل التي بدات تظهر في الحياة اليومية للمواطن ، ليجد العربي نفسه وهو يتفرج ويطلع على حجم التقدم العلمي والتكنولوجي ومستويات الرفاهية التي تعيشها شعوب العالم ، انه يقف عاريا على هامش الحياة ، في اسفل سلم التخلف والضعف والتبعية ، والحرمان ايضا . يتفق علماء النفس الاجتماعي الى ان الحرمان النسبي ، هو احد اهم عوامل الهياج والثورات الشعبية ( سنعود لاثر الحرمان النسبي واثره بحالات الثورة والهياج الاجتماعي ) . قبل ذاك سنجيب ما علاقة عوامل الاحباط ومشاعر العجز والضعف بالتدين . من الملاحظ ان الانسان عند مواجهة اي مشكلة معقدة يفشل في حلها ،اوعند تعرضه لرغبة محبطة ، يبحث عادة عن أي قوة أو قدرة يمكن ان تعينه لتجاوز فشله والتغلب على ضعفه وخوفه ، عادة ما يلجأ الى الاهل والاقارب او المعارف والاصدقاء للاستعانة بهم ، عندما لم يجد العون تبدأ منظومة الميكانزيمات الدفاعية السيكولوجية اللاشعورية للانسان بدفعه لواحد من ثلاث مواقف او استجابات . ان وظيفة ما يعرف ب (الميكانزمات الدفاعية اللاشعورية) هي انها تساهم عادة بتخفيف ضغط المشاعر التي تتشكل بفعل عوامل الاحباط والفشل والعجز والضعف ومشاعر الخوف او تهديد الامن النفسي الداخلي للانسان : 1 : يبدأ بالتفكير بالقدرات الروحية الخارقة ، وذكر الله وعلاقته بالانسان العربي لم تنقطع يوماً ، مهما تبنى من افكار او توجهات علمانية .هو يسمع يوميا من خلال الراديو والتلفزيون ومكبرات الصوت في المساجد ، وحتى من الناس في احاديثهم العامة عن الله " القادر " " القوي" ، "العظيم " ، "المعين" الذي ليس لمثل قدرته شئ ، يتوجه الانسان عادة لهذه القدرة اللامتناهية للخالق يتوسله بالدعاء ثم العبادة ، لا كاكتشاف جديد لقدرات الخالق او ايمان تشكل بفعل قناعة وتفكيرجديدين بل كحاجة واضطرار ، فيما يشبه محاولة لخداع الخالق لاخذ ما عنده من قدرة وعظمة للتغلب بها على عوامل الاحباط والاستقواء بها على عوامل الضعف ، والانتصار على الفشل والعجز . الملاحظ في سلوك هؤلاء المتدينيين انهم وان كانوا صادقين خاضعين في توسلاتهم وعباداتهم للخالق ، الا انهم في الغالب يتصرفون دون حساب للخوف من الخالق في تعاملاتهم اليومية ، فالعبادة هنا هي حاجة دنيوية ، وليس ايمان ورغبة بالاخرة ، هي ثمن بديل مقابل كسب قدرة الخالق او استعارتها لقضاء حاجات لايمكن ايجاد سبل اخرى لقضائها او تحقيقها . اي أنهم بقدر ما هم صادقين بما يعرف بالعبادات فانهم لايحسبون حساب للخالق في تعاملاتهم العامة او ما يعرف بالمعاملات . التعبد بالطريقة اعلاه او التدين الجديد ، له وظيفة سيكولوجية اخرى هنا ، يضفي نوع من الهدوء والاستقرار والتخلص من مشاعر العجز والضعف من خلال التسليم بأن مايعاني منه الانسان ليس ناتجا من عوامل ضعف ذاتية خاصة به ، بل بفعل ارادة الهية قد يكون فيها خيراً او صالحاً لايفهمه الانسان . فيعيد الانسان المؤمن الانسجام مع نفسه وتتعزز لديه قيم اعتبار الذات . 2 : قد يبدأ المحبط حسب مستواه التعليمي وما اندس في عقله من افكار نمطية مسبقة ما يدفعه للبحث عن حل لمشكلاته في السحر والشعوذة والبحث عن القوى الخارقة الاخرى ، البديلة عن الخالق ، التي تمنحه القدرة للتغلب على عوامل الاحباط والفشل . قد لايكون عفويا ان المؤسسات المعنية بشؤون الوطن العربي والقوى التي لها مصالح فيه ، هي من يقف وراء التخطيط لشيوع كتب السحر والشعوذة والترويج للسحر والمشعوذين الذين بدأ ظهورهم يحتل ساعات طويلة من البث التلفزيوني حتى على محطات تحسب بحساب الاتزان ، من اجل تشويش العقل العربي وتعطيله ، وتجريده من عوامل قوته وادراكاته وملكاته الطبيعية . 3 :هناك اتجاه ثالث قد لاتكون عند المحبط خلفيات قوية ( فكرية او تربوية ) تشده لهذه القوى الروحية او الخالق القادر ، القوي ، المسيطر ، الذي بيده كل شئ ، فنراه بدلا من اللجوء الى الدين والسحر يلجأ الى عالم احلام اليقظة ليشكل منها حياة غريبة من احلام القوة والقدرة والانتصار على الازمات والاحباطات . ان احلام اليقظة يمكن ان تخلق حالة تشوش ايضا عقله وتحرمه من التفكير المنطقي ما دامت هذه الاحلام تحقق له التوازن مع ضغوطات عوامل الاحباط ومشاعر العجز والضعف . تكون هذه الاحلام ، احيناً ، من القوة بحيث تمتزج بواقع الانسان الى حد لايستطيع معه الفرز بين الحلم والواقع . الا ان الانسان بحكم قابلية التاثر بالايحاء عندما تكثر وتتعدد مصادره فيتاثر بالتوجهات الاخرين نحو الدين او السحر والشعوذة اكثر من احلام اليقظة ، واحيانا تتداخل هذه الاشكال الثلاث جميعا لتحقق للانسان هدوئه واتزانه . عند العودة لما ذكرناه في اعلاه عن تطور وسائل الاتصال والتواصل ، وما تصنعه من عوامل الاحساس بالحرمان النسبي : سواء اكان بتخطيط مدروس او هو شعار ارتجالي برز ليجسد الاثار السيكولوجية لحالة الحرمان النسبي فبدئنا نسمع بعد حرب الكويت عن موضوع مظلومية الشيعة في العراق ( كنموذج لبيئة وقعت تحت تاثير الهواجس الطائفية ) ، كشعار بديل عن الثورة الاسلامية ، بعد ان تخلى المجلس الاعلى عن هدف او شعار الحكومة الاسلامية والقبول بمشاركة اي قوى اخرى على اساس الخلاص من هذه المظلومية . التدقيق في الشعار يوضح ان المظلومية ، هي هم دنيوي لاعلاقة لها بالدين ، فالمظلومية تؤكد على دعوى حرمان الشيعة من المشاركة بالوظائف الحكومية الكبرى والحكم عامة ، وما يعنيه من امتيازات ومكاسب .مؤشر خطير يشير الى عزل الطائفة عن اصول الدين واساسياته ، والابتعاد عن هموم الاخرة ، والتركيز على الامتيازات ومظاهر الترف الدنيوية . في مجرى الحديث عن تحول الطائفية الى وظيفة دنيوية لادخل لها بالدين الذي نعرف انه يرتكز على العمل في الدنيا لكسب رضى الخالق ، وما يحققه هذا الرضى من مكافأة بالجنة في الاخرة . قدم متاسلمي العراق بطرفيهما ( الشيعي والسني ) من خلال تعاملهما مع الاحتلال ، الذي كان الى حد الامس القريب يمثل الشيطان الاكبر ، مثالا نموذجياً الى ان الطرفان لايحسبان للاخرة اي حساب فهما مشغولان بتحقيق منافع ومصالح دنيوية ( حصة في وظائف الدولة واموال الدولة ومشاريعها وخدماتها في الاماكن المختلفة الخاصة بكل طائفة ) ، على حساب ما كانوا يقولون به من ضرورة "الحفاظ على بيضة الاسلام " . تلك البيضة التي دفعت مجتهدي الشيعة في العراق يفتون بواجب الجهاد في ليبيا ضد الغزو الايطالي لها عام 1908 . ويقودوا حركة الجهاد ضد الاحتلال البريطاني دفاعا عن الدولة العثمانية ، التي تختلف عنهم مذهبيا ، بل تمارس سلوكيات طائفية ضدهم احياناً . الا ان احتلال العراق وافغانستان لم يثير نفس الاهتمام عند المرجعية ولا التجمعات الدينية بنفس المستوى . لايستطيع ان يحكم الانسان هل هو نتيجة تخطيط مسبق ومعد مقدماً .او هو تاثر بالحالة العامة وانعكاس لها ،ان تتحول المرجعيات الدينية ، ايضاً، الى مؤسسات برجوازية في السلوك والمظهر، وتتركز فتاويها حول امور دنيوية صرفة لاعلاقة لها لابالشريعة ولا الدين ، فيفتي السستاني بضرورة الاقتصاد باستعمال الكهرباء غير الموجودة اصلا ، وبحماية الحدود من الارهابيين ، والتعاون مع الاحتلال ، ويلغي من رسالته الدينية وفتاويه بند الجهاد نهائيا . ويعيش وابنائه واصهاره ببذخ غير معهود عن المرجعية الزاهدة . ويفتي القرضاوي بالتعامل مع الناتو للقضاء على انظمة محسوبة على قوى الرفض . واصبحت الاموال العامة الموضوعة كامانة عند المرجع تورث مع كل الامتيازات الاخرى الامتيازات لابنائه ، دون حساب لما هو شائع من تحريم لاكل اموال السحت .وتركزت فتاوى انصاف الفقهاء حول الجنس والمراة وكأن ليس هناك من هموم اخرى في الحياة والدين غيرها ، وتخصص بعضهم بتكفير الاخر والبحث في مصادر التاريخ عن رواية ضعيفة هنا او قصة هناك لتغدو وكانها هي مشكلة المشاكل بالنسبة للانسان العربي .
واصبحت الجمعيات ومراكز الاسلامية وبناء المساجد تجارة مربحة وافضل الوسائل لتحسين العيش والمركز الاجتماعي ، دون اعتبار للدنيا الاخرة وعذاباتها او متع الجنة المتوقعة بها . ان كل هذه المظاهر تعني ان الطائفية ليست موقفا دينيا ، او التزام بتشريع فقهي معين وتفضيله على ما سواه ، كما كنا نعهدها ، بل هي دعاوى دينية تم تطويرها وتحريفها لتشكل غطاء زهديا ، وروحيا على مطامع ورغبات دنيوية لاعلاقة لها برضى الله او الدنيا الاخرة . اي ان الظاهرة يجب ان ينظر لها وتعالج كحالات احباط وفشل ومشاعر احساس بالضعف والفشل ، ولايمكن فهمها خارج اطار مناهج علمي الاجتماع و النفس الاجتماعي بالذات . هناك عامل اخر لايمكن اهماله لعب دورا اساسيا كعامل مثير ومهيج للتوجهات الطائفية ، على الاقل في الجانب الشيعي في العراق . فمن القواعد القانوية او الادارية المتبعة هي ان يعفى عادة الطلاب المستمرين بالدراسة من الخدمة العسكرية ،ويسقط هذا الحق عند الرسوب لسنتين متتاليتين ، حيث يرفض القانون متابعة الطالب دراسته بعدها في المدارس الرسمية . وجد الطلاب الفاشلين ممن نفذت فرصهم في المدارس الحكومية ، ملجأ لهم في المدارس الدينية التي تقوم بتسجيلهم بها مقابل اقساط زهيدة . ما يسمح لهم ان يرتدوا زي رجال الدين ولبس العمامة للتخلص من متابعات الشرطة العسكرية لهم . تفاقمت الظاهرة خلال الحرب العراقية – الايرانية ، فوجد الانسان نفسه امام كم هائل وطبقة جديدة من رجال الدين ، طارئة ولاعلاقة لهم بالدين ، عدا انها محكومة بالجهل عامة ،لاتشبه ما عرفته المؤسسة الدينية الشيعية من رجال دين وعلماء شكلوا علامات مميزة في الفقه والشريعة والتقوى والورع والايمان ، قبل ظهور مشكلة التجنيد الاجباري .ان هذه الفئة او الطبقة من رجال الدين تدرك اكثر من غيرها ، كما يعرف المطلعين من ابناء الطائفة ان علاقتها بالدين هي علاقة مصلحية خالصة ، لمجموعات من الفاشلين ، المهمشين الذين لايجيدون عمل حرفة او مهنة ، فكانت الشعوذة والدجل ادواتهم للارتزاق ، التي ما كان لهما ان ينتعشا بدون تنامي مشاعر الطائفية التي تؤسس على العزلة ونبذ الاخر ، لكنها تعزز ، ايضاً، الوقع الاجتماعي وتوفر الكسب المادي لهذا المهمش ليغدو هو مصدر معرفة الناس بدينهم . ان هذه الفئة من رجال الدين تعرف اكثر من غيرها كيف انها تنتمي بالاصل لفئات اجتماعية مهمشة ، ما يعزز لديهم لاشعوريا مستوى متدني مما يعرف باعتبار او تقدير الذات . يغدو التعصب الطائفي بالنسبة لهم هو البيئة الافضل لتعزيز مشاعر ارقى من اعتبار الذات ، وتحسين نظرة الناس لهم ونظرتهم عن انفسهم . يقابل ذلك ان اغلب طلاب كليات الشريعة لاينتسبوا لها باختيارهم بل بضغط تدني معدلاتهم في الثانوية العامة التي تحرمهم من دخول كليات يميل الطلاب عادة لدخولها لضمان مصادر اقتصادية جيدة للعيش ومكانة اجتماعية مميزة ، كالطب والهندسة والحقوق وغيرها من الكليات الاخرى . وكما هو رجل الدين الشيعي ، تغدو الطائفية لهؤلاء المشايخ وسيلة لتحقيق ما يشعرون من حرمانات اضطرهم تدني مستواهم الدراسي على فقدانهم لها ، لايمكن تعويضها الا ضمن مؤسسات طائفية مزدهرة ومسندة بتعاطف جماهيري واسع . لو اخذنا بمفهوم المنابع التي قال بها الكاتب فالح عبد الجبار ، تلك هي المنابع الحقيقية للطائفية ، التي لاشك ليس ببعيدة عن ادراك الغرب ومراكز بحوثه ودراساته ، وهو المحكوم بمعادات الحركات القومية العربية وحتى اليسارية الماركسية التي مثلت تهديدا لمصالحه في الوطن العربي واربكت خططه في فترة الخمسينات وحتى اوخر السبعينات من القرن الماضي . فراح يعزز مشاعر الاحباط والاحساس بالعجز والفشل ، ويجند طاقاته العلمية والاعلامية للتلاعب بالعقول وتوجيهها بما يخدم اغراضه تارة بالتدخل العسكري المباشر لفرض خطط تقسيمية، مستغلا الطائفية ليدعم مؤسساتها ، ويروج لها من خلال مجموعات من تابعين مدربين لهذا الغرض . وفي دراسة سبق ان نشرتها مجلة المستقبل العربي ، العدد 311 ، كانون الثاني 2005 ، كشفت بمقال تحت عنوان " تبت اياديهم انهم يقتلون الشيعة على الهوية " ، كيف كانت بعض من الحركات الدينية الشيعية تقوم بتفجيرات واعمال ستفزازية في مناطق شيعية ضد الشيعة انفسهم ، لاتهام اطراف من ابناء المذاهب الاخرى بعمليات التفجير او الاستفزاز ، لشحن عواطفهم الطائفية بشحنات عدائية ضد الاخر، فتبدو المؤسسات والاحزاب الدينية الطائفية وكانها تمثل القلاع الحصينة لحماية الطائفة من هذه التفجيرات وما تعنية من نيات الاخر لافناء الطائفة . طبعا لاتعني هذه العوامل الداخلية اهمال دور العامل الخارجي ومخططاته وسلوكياته في تاجيج المشاعر الطائفية ،اهمال كهذا وكما لاحظنا ورقة الاستاذ فالح عبد الجبار ، يلغي اي موضوعية لاي بحث للمشكلة ، التي باختصارهي حصيلة تفاعل عوامل سياسية – اقتصادية – اجتماعية انتجت حالات او مركبات نفسية لاشعورية ضاغطة على المنظومة السيكولوجية للانسان ، تشابكت مع عوامل ومحاولات تحريض خارجي مدروس ومخطط من قبل قوى خارجية معنية بالشؤون العربية ، وذات مصالح كبرى في ابقاء الامة العربية ممزقة ومتخلفة ضعيفة . فلا يمكن تجاوز مشروع شارون – ايتان الذي عرف ب " استراتيجية اسرائيل لثمانينات وتسعينات القرن " الذي نشرت نصوصه منظمة التحرير الفلسطينية عام 1982 . وخطط الحاكم المدني الاميركي بريمر في عراق بعد الاحتلال ، ما اسماها بجهوده الخيرة لرفع المظلومية التاريخية عن الشيعة كما وضح في الجزء الاول من مذكراته ، ثم تعاطفه مع مظلومية السنة التي بدا يؤشر لها في الجزء الاخير من مذكراته . وعشرات الدراسات التي ظلت تخطط لتفتيت الاقطار العربية وتقسيمها ،كمشروع برنارد لويس ، مستفيدة من تعاون وارتباط ما كنا نعرفه من قوى الرجعية العربية لتكون الذراع النشط لتنفيذ ما ترسمه مراكز البحوث والدراسات الغربية من خطط عدوانية معادية لكل ما هو عربي ، واستثمار اخطاء ما عرف بالانظمة الوطنية التي مارس بعضها القمع بشكل مفرط ، ما جعلها تمثل عامل تهديد مرعب للمواطن العربي . اي لايستقيم البحث او الحديث عن موضوعة الطائفية دون النظر اليها والاخذ بالاعتبار الى انها حالة مرضية ، كاي حالة من حالات الهستيريا الاجتماعية التي تصيب المجتمعات عامة ، ونموذج نكوصي لمجتمع ظلت كتب التاريخ تتغنى بامجاده وادواره التاريخية في المساهمة بتطور الحضارة العالمية ، لكنه يعيش بالواقع حالة من التردي والانحطاط والتخلف ما يضعه على هامش التاريخ والحضارة. |