إعلام الجعفري.. والحنين إلى الصحاف

 

 

 

 

 

 

المقال السياسي اليومي يفرض على كاتبه أن يبحث عن الحدث الساخن.. ومنذ أن شرعت في كتابة العمود الثامن، وأنا أحاول البحث عن موضوعات لا تجلب لقرائها اليأس ولا تحاصره بمزيد من البؤس... غير أنني أخجل أيضاً من أن أشغل القارئ بالدعابات ونكات إبراهيم الجعفري وقفشات عالية نصيف.. واحاول وأنا أكتب مقالا ان أعود إلى بعض الكتب التي حالفني الحظ وقرأتها، فأجد ان رجلا بحجم ونستون تشرشل يعترف بأن "الديمقراطية هي أفضل الأنظمة السيئة لكن عندما تسوء يكون سوؤها فظيعاً"، وسوء الديمقراطية هو الذي جعل تشرشل يحترم الإعلام حتى وهو يوجه إليه سِهام النقد ويدفعه إلى أن يتقاعد وينزوي في بلدة بعيدة خارج العاصمة لندن. 
يذكر المؤرخ البريطاني جيفري وبست، أن تشرشل حظي بنصيب وافر ومتعدد الجوانب من المقالات والتقارير التي هاجمته، فمن التهم التي وجهت له آنذاك هي بيع بريطانيا بسعر زهيد إلى الإمبريالية الأميركية الجديدة. ويقال ان تشرشل حين قرأ هذا التقرير قال لأحد ضيوفه "هل تصدق، لم أقبض عمولة هذه الصفقة بعد" ويتساءل المؤرخ جيفري وبست ما الذي يستطيع السياسيون الآخرون إضافته إلى سجل تاريخ حياتهم أكثر من خدمة وطنهم خلال سنوات حرب ضروس؟ وأي رجل آخر غير تشرشل استطاع وهو في السبعين من عمره ان يرفع علامة النصر في الحرب العالمية الثانية وأن ينقذ بريطانيا من مستقبل مجهول..ولكن هذا الرجل حين واجه عاصفة إعلامية شرسة تقبـَّل الأمر وذهب ليجلس في بيته الريفي. 
سيرة تشرشل ذكرتني بالاتهامات التي توجه للإعلام العراقي في كل مناسبة، من أنه يمارس دوراً تحريضياً، ويسعى إلى تضخيم الصورة على حساب الواقع، بل ذهب البعض إلى أن يقول إن سبب الأزمة السياسية هو الإعلام الذي لا يريد للساسة أن يلتقطوا أنفاسهم ويجلسوا إلى طاولة واحدة.. وكان آخرها السيل من النصائح والوصايا التي أطلقها رئيس مجلس الوزراء أمس حين اتهم الإعلام بـ " تركيزه على الجوانب السلبية وإحراج السياسيين"، متهماً وسائل الإعلام بـ"تبني خطاب مدفوع الثمن"! 
في كل مرة يعود البعض لترديد هذه النغمة: "الحق على الإعلام".. وكأن الواقع الذي نعيشه غير مأزوم أصلا.. وكل ما يكتب ويقال في الإعلام هو مجرد لغوٍ وبهتان تبطله الوقائع والشواهد التي تؤكد أننا نعيش أزهى عصور الاستقرار السياسي والرفاهية الاجتماعية، ولهذا فساستنا مصرّون على أن يقولوا للناس لا تصدقوا الإعلام في ما يكتبه وينشره،فهو يريد تعطيل مسيرة التطور والتقدم التي تشهدها البلاد، وأن يسيء إلى مكانة العراق الجديد.
كيف يسقط كبار الساسة في أوروبا وأمريكا ويذرفون الدموع أمام الفضائيات؟.. في سلاح الإعلام حتماً، لذلك قال ديغول وهو يتأمل ما وصلت اليه الامور بعد الحملة التي قادها سارتر ضده: "لم أُواجه في حياتي مدفعية بكل هذه القوة والتركيز على الهدف".. لو حدثت قصة الجنرال ديغول مع المالكي لتحول سارتر الى أحد عملاء تركيا ويقبض عمولات من قطر، لكنها حصلت مع سياسي يحترم الإعلام ويؤمن بأن المسؤول موظف عند الشعب.. لا الشعب "خادم" في مزرعته! 
تطور الإعلام كسلاح تطورا جذريا عندما تحوَّل من الخديعة إلى الحقيقة، وصار التلفزيون في كل بيت ومعه صور الخراب والموت وتجار الحروب.. لكننا في العراق لا نزال نصرُّ على أن نعيش في عصر التلفزيون الواحد، وحكايات محمد سعيد الصحاف.. لا يريد المالكي أن يدرك أن الإعلام قد دخل عصر الحقائق، وأن غوبلز أصبح من الماضي.
آخر فصل في "سيمياء" الإعلام كتبه الدكتور إبراهيم الجعفري ببلاغته المعهودة حين قال لنا: إن الوضع في العراق لم يصل إلى حالة الوحل، تماماً مثلما كان الصحاف يطربنا من قبل.. كلاهما قال لنا لا تصدقوا الإعلام، فما يعرض بالصوت والصورة مجرد "أجندات خارجية"!