استوقفني قبل أيا مشهدان من فلم سينمائي بأسم (1984), وهو انتاج قديم مأخوذ عن روايه تحت نفس الأسم للكاتب الأنكليزي جورج ارول نشرت عام 1949. المشهد الأول عباره عن معتقل في زنزانة التعذيب, حيث يرفع الجلاد (الممثل ريتشارد برتون) أحدى كفيه مبرزا أربعة أصابع منها, ويسأل المعتقل: كم عدد هذه الأصابع,فيجيبه المعتقل بثقه انها أربع. ينال المعتقل صعقه كهربائيه مؤلمه لجوابه الخاطئ. يتكرر السؤال, فيجيبه المعتقل و قد تلاشت الثقه بالنفس عنه بانها خمسه. فينال صعقه كهربائيه أخرى لجوابه الخطأ. يتكرر السؤال و يجيب المعتقل بأنها ثلاثه لتسري الصعقه الكهربائيه مرة اخرى خلال جسده النحيل. يتكرر السؤال, فيجيب المعتقل باكيا معتصرا من الألم و بتوسل: لا أعرف, فيجد الصعقه تسري في جسده من جديد و صرخة الجلاد الحاده ترن في اذنيه: انت كذاب!! فينهار المعتقل متوسلا بالجلاد و يخبره انه ليس الا انسان قاصر, لا يقوى على تمييزالأشياء و الحقائق و يحتاج الى من يرشده لمعرفة الحقيقه. عندها تسترخي ملامح وجه الجلاد الزجاجيه الصارمه و يخبر ضحيته بأن هذا الجواب أفضل, فأنت لا يمكن ان تفهم و تميز حقائق الأمور افضل من الحزب و القائد وهما من يمتلكان مفتاح المعرفه للحقيقه المطلقه. في المشهد الثاني يجلب الجلاد ضحيته و يريه صوره لطبيعه جميله مليئه بالخضره والشمس الساطعه و يقول له ان هذا هو واقعك ليملي عليه وهما بأن هذا هو الواقع الذي يعيشه في ظل الحزب والقائد, قافزا فوق واقعه الحقيقي, حيث ان عظامه ناتئه من الجوع, والقذاره و الخراب و الفوضى تضرب أطنابها في كل ركن من أركان الواقع المزري في الشارع والبيت. كل هذا العذاب والأعتقال كان بسبب علاقة حب قامت بينه و بين امرأه ( اعتقلت هي ايضا), لأنه تجرأ على اقامة علاقه حب دون اخذ الأذن من الحزب!! ان مسارات الفكر والممارسه الشموليان في كل زمان و مكان تتشابه في ملامحها العامه و تكاد تحكمها نفس القوانين. و لا تفرق الا بتطور التقنيات والأساليب للوصول للأهداف المرجوه. فالفكر الشمولي يعمم طروحاته و يخلق ايقونته المقدسه, و تنسحب قدسيتها الى الأتباع واتباع الأتباع. يسلب ارادة الفرد و يدمجها في المجموع الذي يتحول الى مجرد سرب او قطيع ينشد مايمليه عليه القائد والحزب. الحقيقه المطلقه لا يملكها و لا يراها الفرد القاصر. العلاقات الأجتماعيه لا يملك الفرد القدره على تقدير مدى صلاحيتها له و لمجتمعه و بالتالي هو عاجز عن تحديد خياراته. ففي كل تفاصيل و مسارات الحياة و منعطفاتها يحتاج فرد القطيع هذا الى من يوجهه و يرشده الى المسار الصحيح. يستحضرني في هذا السياق مثالان قريبان الهبت نيرانهما أعقابنا,هما البعث و الأسلام السياسي في الممارسه الفعليه, بين العديد من الأمثله الأخرى. فتحت حكم البعث تحول القائد الى شبه اله ان لم يكن بديله. وقدسية القائد اسبغت على أتباعه واتباع الأتباع حتى وصلت الى أدنى حلقات التوابع, فاصبح من هو خارج هذه الحلقه المقدسه لا يجرأ أن يرفع حتى عينيه بعيني شرطي الأمن. لا فكر و لا مبادره خارج ما يحدده الحزب و القائد. وانسحب ذلك تدريجيا على كل أدق تفاصيل الحياة الأجتماعيه اليوميه. فلا زواج أو اختيار للشريك الا بموافقة الحزب. بدأت بمنتسبي المخابرات ثم عممت على الحزب و الجيش لتصل الى الفرد العادي. غير مسموح لك بالأحتكاك بجارك او صديقك أذا لم ينل رضا الحزب. بل حتى اقاربك و اخوتك يسري عليهم نفس الموال, وانت تتحمل وزر و تبعات اعمالهم أوعليك ان تنقلب ضدهم و تحاربهم لتبرئ نفسك من فعل لم تقم به ناهيك انك لا تعرفه. رغيف الخبز أصبح من نعم القائد التي يتكرم بها عليك. الأسلام السياسي لا يشذ كثيرا عن تلك الملامح. علما بأن الأسلام بعموم تأريخه لم يكن الا سياسيا بأمتياز. فالمقدس اسبغ قدسيته لأتباعه و أتباع الأتباع حتى وصلت الى شيخ الجامع. لا يحق لك كفرد في القطيع أن ترى بخلاف ما تراه هذه الأيقونات المقدسه. عليك أن تلغي عقلك و حواسك وتسلم بما تمليه عليك هذه الكائنات المقدسه. فكيف لك أيها الأنسان القاصر أن تجرؤ و تصدق عيناك و تجاربك القاصرات لتوهم نفسك بأن الأرض كرويه. و معروف ذلك الذي عاش و مات و هو يكفر كل من يجرؤ على الأدعاء بكروية الأرض و يخالف بذلك صحيح المعروف عن القرآن حسب زعمه. الأسلام السياسي يريد ان يجعل مئات الملايين من المسلمين مجرد كائنات لا واعيه تلهث ضمن حراك القطيع المتجه نحو اليوتوبيا الموهومه. و حدد هذه اليوتوبيا الحياتيه بفترة حكم الخلافه الراشده, حسب زعمهم, حيث الخليفه الراشد , العادل, و أصحاب بني الله الورعون, و الخير العميم و البطون الممتلئه و الأمان الذي يرخي أجنحته على عباد الله و الحريه تتألق في كل ركن, ولا هم للناس و لا شاغل الا التسبيح بذكر الله ليلا و نهارا. فما أروعها من حياة. هذه هي الحقيقه المطلقه التي عليك كفرد في القطيع المبتغى أن تؤمن بها. و تكذب ماتعرفه و ما يروى لك حتى في كتب ايقوناتهم. و ويل لك ان قلت أن الراشد ليس رشيدا, و ان ثورات المستائين قد ضربت بأطناب اليوتوبيا. و ان ثلاثه من ايقوناتهم الراشده لم يمتها الله بل قتلت. و ان تلك اليوتوبيا لم تمنع الأعتداء على النساء و قتل الأبرياء و امتلاك العبيد و سرقة المال العام و الخاص. لترث دولة الراشدين تلك دولة مقدسه أيضا يحكمها شلة حكام رضى الله عنهم و أرضاهم, حيث القتل المجاني الذي لم يوفر حتى نسل نبي الله, و أبن الراشد الأول وأخو أم المؤمنين من ان يحشوه أحد الصحابة (رضى الله عنه و أرضاه) في جوف حمار. دولة فيها الأعتداء الجنسي على النساء و القاصرات والقصر مدعاة للزهو والفخر يمتد الى اعلى حلقات الدوله العليا. و لكن لا عليك ايها المسلم الا تصديق ما يملى عليك و طاعة ولي الأمر, فهو و مطبليه هم الأكمل والأفضل و الأكثر علما و ما انت الا أنسان قاصر لا تقدر على فهم طلاسم النص و تقييم سلوكيات الآخرين. انت ايها المسلم غير قادر أو عارف كيف تغسل يديك وجسدك, أو ان تمارس حتى غريزتك التي مارستها و تمارسها حتى الأنعام منذ مئات الملايين من السنين, و تحتاج لذلك عشرات الآيات القرآنيه و مئات الأحاديث و آلآف التفاسير و تفاسير التفاسير لكي تنجزذلك. و الأنكى ان عليك ايها المسلم أن تجاهد من أجل جر شعوب الأرض الى عالمك المنحط هذا. الشموليه كالطاعون الذي يصيب البشر و يصيبها في صلب انسانيتها, فيشل العقل و الضمير, و يكسح الأمه ويجرها من كارثة الى كارثه. و اولى خطوات الأنعتاق هو نزع القدسية و الرهبه من الأسماء والأيقونات, ليجد العقل فسحة أكبر للحركه و يستعيد الأنسان انسانيته.
|