المثقف.. هويته ومسؤوليتنا

 

 

 

 

 

 

عندما تكون الثقافة إنسانية، تستوعب التنوع وتحميه وترعاه وتدافع عنه، وبالتالي تحمي نفسها، اما اذا كانت طائفية او عنصرية فتدمر التنوع، ومن ثم تدمر نفسها.

   ولقد كان فقيدنا الاديب والقاص من هذا النوع، ولذلك جمع هذا التنوع واستوعبه واحياه.

   والثقافة الانسانية لا تعرف الحدود، فهي عابرة للقارات، لا تعرف اللغات ولا تعرف الجغرافية ولا تعرف الموت، أنها تعرف الثنائي، الإنسان والحياة فقط لا غير.

   اما الثقافة غير الانسانية، فلا تعرف الا القبر الذي تدفن فيه نفسها.

   هل رأيتم مثقفا إنسانيا كبلت نتاجه الحدود؟ او سورت نتاجه اللغة؟ انه نتاج عالمي بكل معنى الكلمة.

   اما غير الانسانية فلا تتجاوز جدارا، إنما تموت على الفور بمجرد ان تلد، فمهما بذل صاحبها من مجهود لينقلها الى المتلقين، فانه سيفشل في مساعيه، انها ثقافة محدودة في الزمان والمكان.

   ان القلب لا يهوى الا الثقافة الانسانية، والأذن لا تطرب الا عليها، واللسان لا يمتدح بصدق الا هي.

   ولهذا السبب ترجمت الثقافة الانسانية الى كل اللغات العالمية بغض النظر عن هوية صاحبها، فاذا بنتاجات مثقفين مثل، بينيت، بتهوفن، صموئيل بيكيت، باخ، اوستن، طاغور، كافكا، فولتير، بلاك، جوته، طه حسين، الجواهري، الخيام، بوكاتشيو، اريستوفان، ايسوب، وغيرهم الكثير، تخترق الزمان والمكان لتجد لها موقعا متميزا في ثقافات مختلف الشعوب والامم، فلماذا لا نبادر الى ترجمة نتاجات المثقفين العراقيين المبدعين الى اللغات العالمية لتجد مكانها المتميز بين نتاجات اولئك؟.

   ان الانسان لا يسال عن هوية المثقف الانساني، ولا عن وطنه ودينه وانتمائه وعنصره، وانما يتلقى نتاجه بلا شروط مسبقة، فليس مهما عند الانسان الا هوية واحدة فحسب وهي انسانية الثقافة.

   اننا بامس الحاجة اليوم الى الثقافة الانسانية التي لا تعرف العنصرية والطائفية والتزمت، لتنتج لنا الحياة بدل الموت، والحب بدل البغض والكراهية، والايمان بدل التكفير والتشكيك بعقائد الناس، والمستقبل بدل الماضي، والوحدة بدل التفرقة، والتعاون بدل التقاطع، ومواجهة الظلم بدل التعاون معه، ومقاطعة الطاغوت بدل التبرير له، والسلام بدل الحرب، والتعددية والتنوع بدل احتكار الحقيقة التي تنتج الغاء الاخر.

   ان الثقافة الانسانية هي التي تنتج ثقافة المواطنة وتكرس حب الوطن، ولذلك فنحن اليوم بامس الحاجة لها لنكرس في مجتمعنا ثقافة حب الوطن، لنضع حدا لكل هذا التمييز الطائفي والاثني والديني الذي يمزق اوصال المجتمع العراقي ويفتت نسيجه الوطني المتجانس، والذي يعتمد بالاساس على التنوع.

   وهذا يتطلب منا ان نحيي نتاجات المثقفين العراقيين الانسانيين، كفقيدنا الاديب والقاص الراحل، بكل الطرق والوسائل لتحضر في المجتمع بقوتها الادبية وبجوهرها الانساني، لتكنس كل ثقافة اخرى، طائفية.

   لنحييهم باستذكارهم في المدارس والمعاهد والجامعات والمراكز البحثية، وعلى وجه الخصوص التي درسوا فيها وتخرجوا منها، والمكتبات العامة ودور النشر والمسارح ودور العرض والمتاحف وغيرها، ولو بلوحة تذكارية او بمقطوعة ادبية او بدرس تعليمي او بفصل تدريسي مختصر، كل حسب اختصاصه ونوعية نتاجه، في حياته، خاصة، وبعد رحيله.

   ان الثقافة ماض ومستقبل، ولذلك فهي حية لا تعرف الموت، ولهذا السبب، فالثقافة تمثل الجسر الممتد بين زمنين يعبر من حاضرنا، فاذا كانت انسانية فستكرس الخبرة الانسانية باجلى معانيها وابهى صورها.

   فالحاضر يضيف للماضي لتحسين الأداء في المستقبل، فهو لا يلغيه فنخسر تجارب ولا يعبده فتتوقف عقارب الساعة، انه يتفاعل معها لينتج حياة متجددة ومفاهيم انسانية متطورة.

   الثقافة الانسانية تعلم المستقبل، اما غير الانسانية فتعلم الماضي، لان المستقبل يجمع ويستوعب، اما الماضي فيفرق، ولذلك نرى ان الشعوب المتطورة لا تتوقف عند الماضي وهي تقرا ثقافته، وانما تمتطيه لتعبر حاضرها الى المستقبل، فتكرس النجاحات وتستوعب التجارب والخبرات، وتحذر الاخفاقات وعوامله.

   هذه هي الثقافة الانسانية، اما المثقف الإنساني، فهو اما ان يكتب ما يعقد به او يكسر القلم، ليحافظ على شرف الرسالة، فهو لا يعيش على دماء الابرياء، ولا يعتاش على موائد الطغاة، ولا يمتدح ليعيش، انه يؤثر الموت بعز وكرامة على الحياة بذل ومهانة، والهجرة الى بلاد الغربة على ان يتورط ولو بشق كلمة يمتدح فيها طاغوت، وهذا ما سطره المحتفى به، فعندما ارادت الظروف القاسية ان تكسر ارادته وتحطم موقفه الصلب، بادر الى الهجرة ليلعن كل كلمة نطق بها او كتبها تحت حراب الارهاب والتعسف والقهر الادبي.

   تعالوا، اذن، نكرم المثقف في حياته لنكرم انفسنا في حياتنا، ونحتفي بالفارس قبل ان يترجل من صهوة جواده، بمعنى آخر، لنكرم البطل وهو يقاتل في ساحة المعركة، بالكلمة الصادقة وبيت الشعر الشجاع والقصة المعبرة والمقال الثائر والخطاب الناري وكلمة الحق عند سلطان جائر، قبل ان يستشهد بطعنة غادرة من الخلف وهو يتقدم في ساحات المواجهة الفكرية والثقافية.

   وان ما يمكن ان تقدمه وزارة الثقافة العراقية للمثقفين، هو طباعة نتاجاتهم وشراء نسخا منها وتوزيعها على المكتبات العامة والمدرسية، وكذلك على المراكز الثقافية العراقية المنتشرة في دول العالم المختلفة، وتقديم المنح والمخصصات، وتقديم جوائز تفرغ سنوية، لمجموعة منهم، بالإنتاج او بالقرعة، وترجمة النتاجات المتميزة الى اللغات العالمية الحية، لنحمي العراق وثقافته وحضارته، بتعريف العالم به، بعد ان شوه النظام البائد سمعة بلادنا بالحروب العبثية والمقابر الجماعية واستخدامه للسلاح الكيمياوي في حلبجة وغيرها، اذا بالعراق وحضارته عبارة عن همجية حديثة تقتل وتفتك.

   يجب على الوزارة ان ترعى المثقفين العراقيين بكل الطرق، فالى متى يظل المثقفون يموتون على قارعة الطريق في المنافي، فلا يجدون قبرا يضمهم في التربة التي انجبتهم، العراق.

   ان استمرار هذه الحالة تدفع بالاجيال القادمة الى التشكيك بمصداقية الوطن الذي ينتمون اليه، وبمعنى المواطنة التي يحلمون بها، فعندما يشاهدون نهايات ارقى شرائح المجتمع، المثقفون، تموت بهذه الطريقة المفجعة في المنافي، وبعد عقود طويلة من الخدمة، سترتسم في اذهانهم نهايات مماثلة، ما يصيبهم بالاحباط.

   لقد كان نظام الطاغية الذليل صدام حسين يهين الشعب العراقي وتراثه وادبه وثقافته عندما يبادر الى اسقاط الجنسية عن قامات العراق الادبية كالجواهري والبياتي وامثالهم، واليوم فاننا سنهين الشعب العراقي وثقافته وادبه وتراثه اذا لم نحتضن المثقفين بلمسة وطنية تشعرهم بحنين الارض ومسقط راسهم العراق.

   الى متى تظل تنتشر قبور المثقفين العراقيين، الذين يحلمون الى آخر لحظة من حياتهم، بقبر يضمهم في وطنهم، تنتشر في بقاع الارض في الاتجاهات الاربعة؟ وما مقبرة الغرباء في منطقة السيدة زينب (ع) بريف العاصمة السورية دمشق ببعيدة عن ذاكرتنا والتي تضم قبور عدد منهم كالجواهري وجمال الدين.