العراق محوراً للعالم - 3 تغييب القيادات العراقية..المثنى بن حارثة نموذجاً |
قد يستغرب القارئ للوهلة الاولى من اختيارنا هذا العنوان، لان المشهور ان سعد بن ابي وقاص وخالد بن الوليد هما من فتحا العراق، خصوصا ان هذه الشهرة ترسخت بأذهان المجتمع الى حد اصبحت من المسلمات. وقد ابعدت كل الاحتمالات في ان تكون هذه الشهرة وراؤها ما وراؤها، وانها من سلسلة تغييب الحقائق التي دأب عليها جملة من المؤرخين الذين يسيرون بركب السلطة ومذهبها. مع الاخذ بنظر الاعتبار المقولة المشهورة، ان الهزيمة يتيمة والنصر له اباء كثيرون. عندما بدء الرسول الاعظم محمد (ص) اعلانه عن الرسالة الخاتمة التي جاء بها في مكة، استجاب له انفار معدودين، بسبب العنجهية التي كان عليها كبار قريش وان هذا الدين يهدد كيانهم كله، فوقفوا امام كل المحاولات التي قام بها رسول الله (ص) لهداية الامة في مكة. فحاول ان يوصل صوته إلى من هو خارج مكة، تارة عندما يأتون في مواسم الحج، واخرى يخرج بنفسه إلى احياء العرب، فخرج إلى الطائف وغيرها، من الاحياء التي خرج اليها ليدعو اهلها إلى الاسلام هو حي بني شيبان في بطائح العراق، وكان معه علي بن ابي طالب (ع) ويقال كان معهم ابو بكر.
وقد التقى بوجوههم وخيرتهم وهم (غرر الناس وفيهم مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن شريك).
ودار بينه (ص) وبينهم حديث يفهم منه انهم اقتنعوا بمقالته حينما دعاهم للإسلام. لانهم رفعوا بعد ذلك اسم رسول الله (ص) في موقعة ذي قار وبه انتصروا على حد قول رسول الله (ص)، حينما قال: ( يوم ذي قار اليوم أول يوم انتصف فيه العرب من العجم وبي نصروا).
وقد تشرف وفد من بني شيبان في السنة التاسعة للهجرة، يرأسهم المثنى بن الحارث بلقاء رسول الله (ص) مرة اخرى لكن هذه المرة في المدينة المنورة.
بدأ العرب في العراق يقاتلون الفرس وكانت هناك صولات لعرب العراق كبدت الفرس خسائر كبيرة، وان كان هي ليست اول مرة يقاتل فيها العرب الفرس، الا ان هذه المرة تختلف عن سابقاتها كونهم بدأوا باعتناق الاسلام والعمل على ترسيخ مبادئه في هذه الارض المباركة. ومن المعلوم ان الجيوش النظامية لا طاقة لها على مجاراة غارات الاعراب في البوادي القاحلة؛ لان العرب وحدهم يستطيعون مقاومة الصحراء وهم وحدهم يعرفون السبيل إلى الماء الذي هو سر الحياة. وقد انضمت عشائر كثيرة إلى صفوف جيش العرب في العراق بقيادة المثنى بن حارثة الشيباني لقتال الفرس، وهو من جرأ المسلمين على قتال الفرس، والملاحظ ان المسلمين قد احجموا عن مقاتلة الفرس لما لهم من سمعة في الحروب وما يملكونه من جيش، فعندما رأى المثنى الموقف المتردد منهم قال لهم : ( يا أيها الناس لا يعظمن عليكم هذا الوجه فإنا قد تبحبحنا ( فتحنا) ريف فارس وغلبناهم على خير شقى السواد وشاطرناهم ونلنا منهم واجترأ من قبلنا عليهم ولها إن شاء الله ما بعدها).
والملاحظ ان العرب بدأوا بتحرير الاراضي العراقية من ايدي الفرس قبل ان تبدأ الفتوحات الاسلامية، وكل ما حصل ان اهل العراق طلبوا المدد من الحكومة الاسلامية لا غير، الا ان الذي حصل خلاف المتوقع، فبعد ان اسلم غالبية العرب في العراق وحاربوا الفرس لاستخلاص الاراضي العراقية منهم، واتفقوا مع بعضهم الاخر لتسلم المدن في ايدي المسلمين، نسبت الفتوحات إلى اشخاص لم يكن لهم فضل الا مساعدة العرب العراقيين في طرد المتبقي من جيوش الفرس.
وعلى الرغم من كل ما تحدث عنه التاريخ من بطولات لعرب العراق الا ان المحدثين والمؤرخين لم ينصفوهم، فاسمع قول الحلبي : (لم أقف على إسلام أحد منهم إلا أن في الصحابة شخصا يقال له المثنى بن حارثة الشيباني وكان فارس قومه وسيدهم والمطاع فيهم ولعله هو هذا لقول هانئ بن قبيصة فيه إنه صاحب حربنا ورأيت بعضهم ذكر أن النعمان بن شريك له وفادة فيكون من الصحابة أي وفى أسد الغابة أن مفروق بن عمرو من الصحابة ونقل عن أبي نعيم أنه قال لا أعرف لمفروق إسلاما).
كيف لا يقف على اسلامهم وهم معدودين من الصحابة، وقد رأوا رسول الله (ص) وتحدث معهم واشاد بصفاتهم، وقد قاد بعضهم جل فتوحات العراق.
كيف لا يعرف لاحد منهم اسلاما والمثنى هو الذي فتح السواد على تعبير ابن قتيبة.
وقال عنه ابن الاثير مترجما له : المثنى بن حارثة بن سلمة بن ضمضم بن سعد بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل الربعي الشيباني وفد على النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع مع وفد قومه وسيره أبو بكر الصديق رضي الله عنه في صدر خلافته إلى العراق قبل مسير خالد بن الوليد وهو الذي أطمع أبا بكر والمسلمين في الفرس وهون أمر الفرس عندهم وكان شهما شجاعا ميمون النقيبة حسن الرأي أبلى في قتال الفرس بلاء لم يبلغه أحد ولما ولي عمر بن الخطاب الخلافة سير أبا عبيد بن مسعود الثقفي والد المختار في جيش إلى المثنى فاستقبله المثنى واجتمعوا ولقوا الفرس بقس الناطف واقتتلوا فاستشهد أبو عبيد وجرح المثنى فمات من جراحته قبل القادسية).
وقال ايضا : (وكان كثير الاغارة على الفرس فكانت الاخبار تأتي أبا بكر فقال من هذا الذي تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه فقال قيس بن عاصم أما انه غير خامل الذكر ولا مجهول النسب ولا قليل العدد ولا ذليل الغارة ذلك المثنى بن حارثة الشيباني ثم قدم بعد ذلك على أبي بكر فقال ابعثني على قومي أقاتل بهم أهل فارس وأكفيك أهل ناحيتي من العدو ففعل أبو بكر وأقام المثنى يغير على السواد ثم أرسل أخاه مسعود بن حارثة إلى أبي بكر يسأله المدد فأمده بخالد بن الوليد فهو الذي أطمع في الفرس). فقال شاعر يذكر ذلك :
وللمثنى بالعال معركة شاهدها من قبيله بشر
كتيبة أفزعت بوقعتها كسرى وكاد الإيوان ينفطر
وشجع المسلمون إذ حذروا وفي ضروب التجارب العبر
سهل نهج السبيل فاقتفروا آثاره والأمور تقتفر.
وقال ابن حبان له صحبة، وللمثنى أخبار كثيرة في الفتوح ساقها سيف والطبري والبلاذري وغيرهم.
وذكر ابن اعثم في فتوحه: فأرسل إليه أبو بكر رضي الله عنه فجعله رئيسا على قومه وبعث إليه بخلعة ولواء وأمره بقتال الفرس. قال : فجعل المثنى بن حارثة يقاتل الفرس من ناحية الكوفة وما يليها ويغير على أطرافها ، فلم يترك لهم سارحة ولا رائحة إلا استقاها ، وأقام على ذلك حولا كاملا أو نحوا من ذلك ، ثم إنه دعا بابن عم له يقال له سويد بن قطبة بن قتادة بن جرير بن بشار بن ثعلبة بن سدوس فضم إليه جيشا ووجهه إلى نحو البصرة ، فجعل يحارب أهل ابلة وما يليهم من الفرس . قال : فكان المثنى بن حارثة بناحية الكوفة وما يليها وسويد بن قطبة من ناحية البصرة وما يليها ، هذا في جيش من بني عمه جميعا يحاربان الفرس ولا يفتران من ذلك .
وقد بلغ جيش عرب العراق في الفتوحات إلى ان وصلهم خالد وهم تحت قيادة المثنى بن حارثة ثمانية الاف مقاتل والذين كانوا مع خالد عشرة الاف. وهؤلاء المقاتلون العراقيون كانوا من عشائر عدة منهم، النخعيون، وقد كانت لهم الصولة الكبرى في معركة القادسية التي وقعت مع الفرس، والتي انتهت بهزيمتهم وانتصار العرب.
ومن الضروري ان اسجل هذا الاستغراب، وهو ان معظم فتوحات السواد جرت في زمن ابي بكر اي في عالم 12 هـ ، وقد وصل المثنى وجنده الى بغداد وعانات بعد الحيرة واليس والنخيلة وغيرها، فكيف استطاع الفرس ان يقاتلوا المسلمين في القادسية قرب النجف في عام 16 هـ ؟ في الوقت نفسه اود ان اوضح مسألة مهمة، وهي ان الذي يتبادر الى الذهن عندما يقرأ المتلقي الكريم ان الكوفة مصرت سنة 17 هــ يتصور انها فتحت في هذا العام، والحقيقة هناك فرق بين الفتح وبين التمصير، فمن الواضح انها فتحت بشكل رسمي وطرد الجيش الفارسي منها سنة 12 هـ، لكن الذي حصلت ومصرت بعدها ان المسلمين جعلوها مقرا لعسكرهم فاتخذوها مركزا لهم. وبهذا يزول الاستغراب من قولنا ان المثنى بن الحارثة هو من قتح السواد. من هنا يتضح ان خوف الخليفة الثاني من هذه المدينة وان لها دوي كدوي النحل بقراءة القران، هو ان الاسلام قد وصلهم قبل الفتح العسكري، بل حتى ان المسيحيين في هذه المنطقة كانوا يراسلون رسول الله (ص) في حياته، وليس الامر كما يتصوره البعض ان الاسلام دخل الكوفة سنة تمصيرها.
وقد كانت شيبان تفتخر بالمثنى لفتحه الكوفة وقام خطيبا فيها، على ما ينقل السمعاني في الانساب.
وقد مدحه الشعراء في قصائد كثيرة، منها هذه الابيات:
هاجت لعروة دار الحي أحزانا واستبدلت بعد عبد القيس همذانا
وقد أرانا بها ، والشمل مجتمع إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا
أيام سار المثنى بالجنود لهم فقتل القوم من رجل وركبانا
سما لأجناد مهران وشيعته حتى أبادهم مثنى ووحدانا
ما إن رأينا أميرا بالعراق مضى مثل المثنى الذي من آل شيبانا
إن المثنى الأمير القرم لا كذب في الحرب أشجع من ليث بخفانا
إلا أن هذا لم يكن يعجب الخليفة الثاني فكان يقول أما والله لئن صير الله هذا الأمر إلي لأعزلن المثنى بن الحارثة عن العراق وخالد بن الوليد عن الشام حتى يعلما إنما نصر الله دينه ليس إياهما نصر .
وها هو يعترف بان المثنى أميراً للعراق ولم يصدر منه ما يجعل الخليفة الثاني يغضب كل هذا الغضب. وكان يقول بان المثنى هو الذي أمر نفسه , ولو كان يفكر بعقلية القيادة الحقيقية لما أقلقه وجود مثل هذه شخصية لأنه بالفعل مكسب للإسلام، لان العراق وبحسب ما يظنون هم لم يكن للمد الإسلامي أي نصيب فيه ،فضلا عن انه من قبيلة الكل تفتخر بالانضمام إليها وكما جاء على لسان العرب قيل : إذا كنت في قيس فكاثر بعامر بن صعصعة وحارب بسليم بن منصور وفاخر بغطفان بن سعد ،وإذا كنت من خندف فكاثر بتميم وفاخر بكنانة وحارب بأسد ،وإذا كنت في ربيعة فكاثر بشيبان وفاخر بشيبان وحارب بشيبان .
ولم يكتفوا بعزله عن قيادة الجيش بل إنهم عمدوا لقتله ومن المفارقات بأنهم يذكرون انه مرض قبيل معركة القادسية واستشهد إثرها , لكن الحق نقول بان معركة القادسية وقعت سنة 16 للهجرة والأغلب تقول بأنه مات سنة 14 للهجرة . والصحيح بان سبب موته انه عانى من مرض أودى بحياته , ولا يستبعد أنهم دسوا له السم ليخلّوا الساحة منه ومن أمثاله , ومما يثير الشكوك إن سعد بن أبي وقاص تزوج زوجته سلمى بنت جعفر وهي التي قالت لسعد بالقادسية حين رأت من المسلمين جولة فقالت : وامثنياه ولا مثنى للمسلمين اليوم، فلطمها سعد فقالت اغيرةً وجبنا، فذهب مثلاً .
والعجيب ان أبطالنا تقتل وتشرد ويفعل بهم ما يفعل ونحن لا نشعر ولا نبالي ،فكم ياتُرى من المؤمنين التفت لما يدور حوله وكم شخص كشفت له المؤامرات التي تحاك لإسقاط المناصرين للحق ،بل كم منا لم يكن حلقة تمرر من خلاله الأكاذيب والألاعيب ونحن نحسب أنفسنا نحسن صنعا {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }الكهف104.
فالذي فتح العراق حقيقة هو المثنى بن الحارثة الشيباني بنص الطبري وغيره، ومجيء سعد بن ابي وقاص وخالد ان صحت هذه الروايات فانهم جاؤا بعد ان تمت مسالة فتح الكوفة والبصرة، والملاحظ ان خالدا جاء الى سفك دماء الابرياء وليس الى فتح البلاد، كمجزرة عين التمر وغيرها، وهذا ما سنتحدث عنه في قابل الحلقات.
وقد جعلوا ارض السواد (العراق ) في ميزانهم الفقهي ارض مفتوحة عنوة من قبل الجيش الإسلامي وأنهم قهروا العدو عليها .وبذلك جعلوا الأرض فارسية وإنهم تعاملوا مع أهلها على أنهم فرس ، وهذه مغالطة تاريخية كبرى ،وهُمش بذلك دور السكنة الحقيقيين لهذه الأرض ،وخلطوا بين المحتل وصاحب الأرض .مع العلم وكما تقدم بان أصحاب الأرض دخلوا الإسلام وهم الذين بدءوا الحرب مع المحتل وأعطوا دماءً زكية في سبيل نيل الحرية . وان اغلب المناطق صالحوا اهلها لانهم لم يقاتلوا مع جيش الفرس وقتها.
فهم لم يضيعوا حق المثنى بن الحارثة فقط وإنما طمسوا نضال وجهاد شعب بأكمله ،بسبب كتم الحق وإخفاء الأبطال الحقيقيين ومن يقف ورائهم . |