أحد القرّاء عاتبني لأنني أخصص العمود الثامن للحديث عن فشل مؤتمر السلم الاجتماعي.. القارئ الذي عــدَّني "متحاملا" لأنه يرى في المؤتمر انتصاراً لإرادة العراقيين حسب قوله.. كتب يقول: أنا بحثت عن الفشل الذي صدّعت رؤوسنا به، ووجدت أن المؤتمر نجح في تحقيق إرادة العراقيين بمجتمع يؤمن بالسلم الاجتماعي ولم ينسَ القارئ أن يذكّرني أنّ الإدارة الأمريكية ومعها الأمم المتحدة اتصلتا بقادة البلاد لتهنئتهم على هذا النصر المبين، وهذا دليل جهلي.. رسالة البيت الأبيض التي كانت بالنسبة للقارئ كنزاً ثميناً، أثبتت حسب قول القارئ "غبائي" المطبق. القارئ حاول إذاً مقاومة التفكير بما تصور أنه حقائق ووقائع على الأرض، رافضاً التدقيق بالنتيجة وتعامل مع الأمر وفق شعارات الابتهاج، التي امتلأت بها الصحف خلال الأيام الماضية. كان والد الخطيب البغدادي تاجراً وأراد لابنه أن يواصل مهنة الأجداد، لكن صاحبنا انصرف إلى الكتب والتأليف والكتابة، وأشهر ما ترك لنا نحن أبناء دولة القانون "تاريخ بغداد"، في تسليط الضوء على هذه المدينة، التي ملأت الدنيا حكايات، وشغلت الناس بأخبارها، خطر لي كتاب البغدادي وأنا أحاول أن أرد على القارئ العزيز.. فقد ظل صاحب تاريخ بغداد يصر على أن كل نزاع بين الولاة والسلاطين كان يأخذ صفة الدفاع عن القانون وسلامة الناس، حيث استمر الدفاع عن القانون عقوداً حتى وجدنا، حكاماً يصرّون على أن يأخذوا القانون معهم إلى القبر.. اليوم نجد سلطة تزدري الوطن والمواطن، فماذا تتوقع يا عزيزي صاحب الرسالة الغاضبة من الناس، هل يستمرون في تصديق ما يشاهدون من مؤتمرات امتلأت بسذاجة الخطاب؟ سيردّ القارئ: إنك تفكر في مسؤولين على شاكلة ديغول وكوان لي ولولا دي سيلفا، ودولة على شاكلة سنغافورة والبرازيل ونحن بلاد علّمنا العالم، القانون وقبله الكتابة.. أيها القارئ العزيز لعل أسوأ ما نمر به اليوم أن المواطن لم يعد بحاجة إلى إعلام يشكك بمنجزات ساستنا، الناس يعرفون كل شيء، وكل مواطن يملك من المعرفة حول فضائح المسؤولين أكثر بكثير مما تتسع له كل وسائل الإعلام.. ما يقوله الناس ينمّ عن يأس من أي إصلاح ما دام المسؤول يعتقد أنه فوق القانون وفوق المساءلة.. ودعوني أستشهد بالجنرال الروماني بومبيوس حين قال لمواطنيه يوماً "إلامَ تسألوننا عن القانون، ونحن من نحمل السيف في وجه الأعداء؟" ولكن قبل أن يتحمس البعض ويجعل من جملة بومبيوس شعاراً لدولة القانون، لابد من تذكيرهم بأن الجنرال الروماني لم ينتهِ نهاية سعيدة، وأن جنرالاً آخر انتصر هو يوليوس قيصر.. وكان يوليوس صاحب مقولة إن القيصر يجب أن يكون فوق المساءلة لأنه فوق الشبهات.. وهؤلاء الذين يعيشون فوق الشبهات لم نجد أحداً منهم اليوم يستبدل الخطب الرنانة، ببرامج تقول، ماذا سيقدم أصحاب مؤتمر السلم الوطني في عصرهم الزاهي السعيد؟ في الوقت الذي نقرأ فيه مانشيتات تطالب الإعلام بأن يصفق للمؤتمر بكلتا يديه، ينبهني العالم العراقي الدكتور حسن الجنابي إلى ما حدث في بلاد أخرى، أستراليا، حيث قام رئيس وزرائها بأخذ مقعد مقدّم برنامج إذاعي ليجري مقابله مع الصحفي الأسترالي الشهير فيليب آدمز، بمناسبة مرور 21 عاما على برنامجه الإذاعي، الذي ما انفكّ فيه ينتقد الحكومات المتعاقبة ويحاصرها بالسخرية كل يوم، فرئيس الوزراء أراد أن يُشعر الإعلاميين بأن الناس تريد أن ترى الوجه الحقيقي للساسة، فيما نحن لا نزال نصرّ على أن لا خطط للتنمية ولا خدمات ما لم نسمع كل يوم إلى وصايا الخزاعي. سياسيون لا يريدون لنا أن ندخل مثل سائر البشر، عصر الحياة والرفاهية، والخروج من ذل الخوف وفقدان الأمن والأمان.. ياعزيزي القارئ، الناس تريد أن تقرأ أرقام النمو ومعدلات التنمية، فقد ملـُّوا من أرقام الموت وخرائط الفقـر والفساد!
|