في الأيام الأولى من عودتي إلى الوطن قبل ستة أشهر، صعدت في سيارة تكسي يقودها شاب في العشرين من عمره، لاحظت عليه اضطراباً يعكس حمرة داكنة على صفحة وجهه، مراقبتي لوضعه زادت حين رأيته قد أخرج من جيبه أدوية وراح يبلع، فسألته، ما هذه الأدوية فقال "هاي للسكر وهاي للضغط" فقلت متعجباً، لكن عمرك لا تمسه هذه الأمراض التي غالباً ما تصيب كبار السن، فباغتني بسؤال غريب.. شنو عمي انته موعراقي؟.
استمر سؤاله معي لستة أشهر، وهي الفترة التي أنجزتها في العراق منذ عودتي، وحيث بدأت أعراض السكر والضغط تغزوني، وهذا الحال ربما يعود بالنفع على صحة مواطنيتي في بلاد يأكلها الفساد الثقافي قبل كل فساد. فمنذ عودتي وأنا أعالج في كتاباتي ملفات الفساد والأمن ودول الجوار، وهي إلى استمرار وأنا إلى وهن، وقد وضعت الفساد الثقافي أولاً لسبب علمي فلا يمكن لفساد أن يستشري إلى هذا الحد، إن لم تكن المنظومة الثقافية في البلاد إلى انهيار، وهو الأمر الذي يجعل القيم هشة كمخدة الريش.
المثقف الغربي في الأزمات يتصدر الحلول، وأولها التحصين الثقافي للمجتمع وحماية توجهاته الثقافية، وهذا حصل في حروب عالمية وفي أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية. في العالم الثالث ليس هناك أسهل من الاستدارة عن التوجهات الثقافية وتصبح التبعية للسياسي أشبه بتبعية القطط لراعية المطبخ. وهذه الصورة تبدو في عراقنا الراهن في أكثر أشكالها وضوحاً، حيث تم نهب المال العام ووزع محاصصة على الكتل. أصبح دور المثقف خارج الثقافة النقدية ليكون سنداً لهذه الكتلة أو تلك مقابل (لحسة)، فلا الحرية التي يرددها أو كان يرددها بشغف تماهياً مع المثقف الغربي ولا التغيير الذي كل ثقافتنا العراقية تنتظره بعد سقوط الدكتاتورية يبدو من اهتماماته.
في كل يوم أتذكر سائق التكسي الشاب وأحاول العثور عليه، فقد حصلت على صفتي العراقية! وأريد أن أبارك له ثقافته العراقية التي يلخصها سؤاله.. عمي انته مو عراقي؟!.
|