لم يعد الأمر يتحمل مزيدا من التصريحات والتحذيرات لا من قبل السياسيين ولا من جانب رجال الدين فالقوى المتطرفة "سنية كانت أم شيعية" تبدو عازمة كل العزم على اشعال الحرائق الطائفية في البلاد كل بذرائعه وفتاواه ودوافعه.
وقد بات من الواضح للقاصي والداني أن بعض هذه القوى، وربما جلها، مصمم عن سابق قصد وتخطيط على اشعال هذا الحريق، ولذلك لن تثنيه أصوات المحذرين والناصحين مهما علا شأنهم وسمت مكانتهم، بل ربما تزيده، هذه الأصوات، إصرارا لأنها تشعره بقرب انتصار مشروعه الجهنمي لاعادة العراق والعراقيين الى أتون القتل والقتل المتبادل على الهوية الطائفية والجهوية، حيث تحصد كواتم الصوت وسكاكين الذبح الأبرياء من هذا الشعب، الذي ما عاد يعرف الى أين تقوده هذه العاصفة الهوجاء من العنف والقتل والتهجير.
هل يمكن تجنب اندلاع حرب طائفية ثانية في العراق وكيف؟ هذا برأينا هو السؤال الأكثر أهمية وضرورة من أية أسئلة أخرى تتحدث عن مخاطر مثل هذه الحرب وتداعياتها والمسؤولين عنها.
ولأننا ندرك أن مفاتيح الاجابة على مثل هذا السؤال ليست بيد جهة واحدة أو طرف بمفرده، ندرك كذلك أن السموم الطائفية التي يراد بثها مجددا في سماء العراق ليست محلية الصنع فقط إنما بعضها قادم من لهيب الأزمات في المنطقة ومن قوى خارجة لا تريد للعراق الاستقرار ولا لشعبه العيش بسلام وأمن.، بيد أننا خبرنا في الوقت ذاته، من تجربة الأشهر الماضية، أن شتى الجهات والأطراف الوطنية الحاكمة منها والمعارضة لم تبذل الجهد المطلوب حتى الآن لأطفاء جذوة هذه الحرب التي تستعر يوما بعد يوم، أمام أنظار الجميع، بل أن البعض من هذه القوى والجهات اكتفى ولا يزال بالبيانات والتصريحات الخجولة التي لا تردع قاتلا ولا تمنع معتدياً.
وانطلاقاً من هذا كله نجد أن مسؤولية كبرى ودوراً أساسياً يقع، اليوم، على عاتق رئيس الوزراء الأستاذ نوري المالكي بوصفه صاحب القرار الأمني والسياسي الأول في البلاد، وهو الجهة التي تؤخذ مبادراته بعين الاعتبار والجدية والثقة. ولهذا نتوجه إليه بهذه الرسالة المفتوحة مدفوعين بواجبنا الوطني وحرصنا على حياة أبناء شعبنا ووحدته الوطنية التي يراد تفتيتها مرة جديدة.
الرئيس المالكي:
لقد كان يمكن تجنب الحرب الطائفية الأولى، التي راح ضحيتها عشرات الالاف من العراقيين في عبث القتل والقتل المتبادل، لو كان لدينا سياسيون على قدر من المسؤولية الاخلاقية والشجاعة، يؤمنون حقاً بضرورة وحتمية التعايش السلمي بين أبناء العراق من كل الطوائف والأعراق والمكونات. سياسيون يعلون من شأن الوطنية على الطائفة والسلم الأهلي على الضغينة والثأر ووحدة العراق والعراقيين على وحدانية المذهب، لكن للأسف الشديد افتقدنا هؤلاء في تلك اللحظات التاريخية الحاسمة والحرجة التي انفلت فيها العنف الطائفي من عقاله وفتك ما فتك بأهلنا وأبناء شعبنا.
نقول هذا دولة رئيس الوزراء لأن إدارة الأزمة في تلك الأيام السود لم تكن بالبراعة والحكمة المطلوبتين لمواجهة مثل هذه الظروف العصيبة بل كانت متخبطة وضائعة في لجة الأحداث، وقد شجعت، من حيث لا تدري ربما، على إطلاق قمقم الطائفية الكامن في النفوس والذي عبأته جريمة تفجير المرقدين الشريفين في سامراء.
كنا شهوداً، دولة الرئيس، على تلك الساعات والأيام التي تجمعت فيها نذر الشؤم، وكان يمكن لو وظفنا العقل بدل العواطف وتهدئة النفوس بدل تشجيع نوازع الثأر، لما آلت إليه الأوضاع الى ما آلت إليه من بطش وتقتيل وبشاعات.
كان على الذين كانوا في قمة الهرم في الحكومة والدولة أن يقولوا لأبناء الشيعة الثائرين حنقا على الجريمة الشنعاء أن الإمامين عليهما السلام موضعهما الجنة ينعمان فيها وأن مرقديهما المقدسين اللذين هدمهما الظلاميون الارهابيون سنعيد بنائهما على أفضل مما كانا عليه. وإن المجرمين الذين أرادوا تمزيق وحدة العراقيين لن يفلتوا من العقاب، ويجب أن لا نمنحهم فرصة الانتصار علينا بهذه الفتنة الغاشمة.
كان يجب تهدئة النفوس وتطييب الخواطر، من جانب حكومة مسؤولة عن رعيتها من جميع الأطياف وليس عن طائفة واحدة. وكان من الواجب عليها فرض منع التجوال حتى تتمكن من السيطرة على الثورة المنفلتة، لكن بدلا من الحكمة في مواجهة الفتنة الطائفية، انساق البعض وراءها وتم فسح المجال أمام الحشود، وفي المقدمة منهم المتربصين من دعاة العنف والطائفية والثأر، لاحتلال المشهد بحجة منحهم فرصة التنفيس عن مشاعرهم، فكان ما كان يا دولة رئيس الوزراء.
واليوم حيث يعيد التاريخ نفسه بصورة أخرى ولكن في جوهر واحد هو محاولة إثارة وتأجيج روح العداء والضغينة الطائفية بين الشيعة والسنة، بعد أن أسهمتم بشخصكم في ترميم ما هدمته سنوات العنف الطائفي في النفوس والأرواح، نجد أنفسنا أمام امتحان جديد للحكمة والعقل، من أجل تفويت الفرصة على الارهابيين والطائفيين وهزيمة مشروعهم الدموي.
وإننا إذ ندرك جسامة المهمة، في ظل تعدد الأطراف والجهات الداخلية والخارجية، التي تبث السموم في أوساط شعبنا، نعتقد أن بانتظاركم واجباً تاريخياً تنعقد عليه آمال العراقيين، في وقف التداعيات الخطرة التي نشهدها كل يوم من جراء تصاعد عمليات القتل والقتل المتبادل وعودة التهجير والجثث مجهولة الهوية وقتل العائلات بأطفالها ونسائها وشيوخها. واجب تاريخي يستلزم منكم يا دولة الرئيس تقديم كل ما يمكن من التنازلات لوأد الفتنة وسحب البساط من تحت أقدام المتاجرين بها، واستعمال كل ما يمكن من قوة الدولة وأسلحتها لكبح جماح الخارجين على القانون والتنظيمات المسلحة الميليشاوية والارهابية من أي طرف كانت.
الواجب التاريخي يدعوك يا دولة الرئيس الى لعب دور محوري وطني خارج نطاق قوقعة الحزب والطائفة، فأنت رئيس وزراء العراق كله بجميع مكوناته وطوائفه وبشتى محافظاته ومدنه وقصباته، وإذا كان بوسعك أن تعلن ذلك بوضوح وعلى رؤوس الأشهاد ستكون بادرة لم يسبقك إليها سوى القلة من القادة في التاريخ.
واجب تاريخي يدعوك الى إطلاق مبادرة مصالحة حقيقية بين الممثلين الحقيقيين للسنة والشيعة من داخل العملية السياسية ومن خارجها، تفتح حواراً مباشراً وصريحاً عن المخاطر المحدقة بالعراق والعراقيين وعن سبل الخروج من هذا المأزق، وعن ثمن هذا الخروج إن كانت حقوقا أو مطالب أومنافع أو مناصب، مبادرة يمكن أن تشرك فيها كل الشرفاء والخيرين من الأصدقاء والأشقاء والحريصين على العراق وأهله.
واجب يدعوك الى مصارحة أهلنا في الأنبار والفلوجة وسامراء ونينوى مباشرة ومن دون وسطاء، ضعهم أمام مسؤولياتهم الوطنية فالعراق في ذمة الجميع. صارحهم في موقفهم من الارهاب والارهابيين وهل يقبلون بهذا القتل اليومي بالسيارات الملغمة والتفجيرات التي تستهدف أهلهم وأبناء جلدتهم في بغداد ومحافظات الجنوب بين يوم ويوم. عدهم بتحقيق مطالبهم المشروعة وحققها لهم من دون إبطاء أو تسويف. عدهم بإصلاحات دستورية تعالج الثغرات والأخطاء في القوانين والتشريعات. عدهم بتوازن المصالح والحقوق والواجبات في جميع مرافق الدولة. وسترى حينها أن نصف مشكلات العراق ستحل إذ لن يجد بعدها شذاذ الآفاق والارهابيون موطىء قدم في ساحات اعتصامهم.
واجب يحتم عليك يادولة الرئيس، في هذه اللحظات التاريخية الحاسمة، التخفف من عبء مستشاري حزبك وخاصة أولئك الذين لا يرون غير مصالح حزبهم وطائفتهم. عليك أن تجمع حولك خيرة الشخصيات في المهنية والصدق والاخلاص والوطنية ليسدوك المشورة ويساعدوك على اتخاذ القرار الصائب فلا عيب ولا نقيصة في ذلك وما خاب من استشار.