تقصّدت أن أتأخر في الكتابة عن موضوع التهجير الطائفي الذي اشتعل أواره في مدن البصرة والناصرية لعشائر سنية عاشت في تلك المناطق طوال عمرها، ناهيك عن عمليات الاغتيال المنظم لأبناء تلك العشائر. كما تأخرت في تحليل العمليات الانتقامية التي تجريها القوات الحكومية في مناطق حزام بغداد، بحجة مكافحة الإرهاب، والتي أشعلت، أي تلك العمليات، الإرهاب فحصدت أرواح العشرات من العوائل الشيعية عبر عمليات ذبح وتهجير أيضاً، بعد أن كانت هذه العوائل جزءاً لا يتجزأ من النسيج المجتمعي لتلك المناطق.
أما لماذا تأخرتُ، فالسبب واحد: هو أنني أردت الإستزادة من أخبار القتل والتهجير لدى الجانبين، ولقد قادتني مراقبة هذا الموضوع إلى قناعة تفيد برضا حكومي كامل على ما يحصل.
أكبر ردّ على ما حصل كان على لسان رئيس الوزراء نوري المالكي، ولو قرأت كلمته التي أذيعت ظهر الأربعاء الماضي (18/9/2014)، لوجدتها لا ترقى لشناعة ما يجري، وكأنّ صاحبها يعيش في كوكب آخر، وليس في العراق. ولعمري، فإن هذا يعطي العبد الفقير دليلاً قاطعاً على ضلوع حكومتنا في الذي يجري.
وليست الحكومة وحدها الضالعة بعمليات القتل والتهجير، كما أزعم، بل شركاء العملية السياسية كلهم. أما لماذا، فالجواب، بالنسبة لي، يتمثل بإنجاز وعد العمّ بايدن الشهير بفدرلة العراق، تمهيداً لتقسيمه.
وكنت كتبت أكثر من مرة رأيي في النظام الفيدرالي، بل والتقسيم أيضاً. ولا بأس من القول من جديد، أن النظام الفيدرالي، إذا ما طبق بشكله الأمثل، وكان قادراً على حقن دماء الناس، فألف أهلاً وسهلاً به، ولكن أن يراد منه تأسيس ممالك طائفية يسحق فيها الصوت الآخر، سواء أكان هذا الصوت من طائفة أخرى، أو ينتمي لميل فكري مغاير، فهذا ما لا يمكن الموافقة عليه.
المصيبة أن الممسكين بالسلطة، والمتحالفين معها، هم بالمجمل ينتمون لأحزاب طائفية، وهذا هو السبب الذي دعاني لاتهامهم بالوقوف وراء عمليات القتل والتهجير المنهجي المتبادل. بصريح العبارة: انهم يريدون تمهيد الطريق لصياغة فيدراليات طائفية مغلقة. ومن المؤكد ان اقليماً للشيعة، على سبيل المثال، لن يكون السنّي فيه مغضوباً عليه فقط، بل سيكون معه الشيعي غير الطائفي. وقل الأمر نفسه عن الاقليم السنّي الذي يرعاه الطائفيون.
ولأن الناس أدمنت السكوت المرّ، فإن احتجاجاً جدياً ضد عمليات القتل والتهجير المتبادلة لم نسمع به، وحتى التظاهرة التي انطلقت في البصرة ضد تلك العمليات فقد شارك فيها العشرات فقط، تصوّر العشرات من مجموع سكان البصرة الذين يصل تعدادهم إلى حوالي 3 مليون مواطن. ان ذلك يدلل، وبشكل قاطع، على أن السكوت والصمت الذي يمارسه العراقيون بأزاء ما يرتكب ضدهم من جرائم وحشية هو جريمة بحد ذاته، وجريمة سببها النخب السياسية التي تمسك بالمال والسلاح والعساكر، فتمنح الحياة لمن تشاء وتأخذها ممن تشاء، مستغفراً ربي على ما أقول!
ستستمرّ عمليات القتل والتهجير المتبادلة في مختلف المناطق العراقية، لأن أمراء الطوائف حسموا أمرهم، وقرروا البقاء مثل الخناجر على رقابنا، وما لم نرفع سيوفنا بوجوههم فإن بلادنا ماضية، حتماً، لتكون عبارة عن جزر طائفية خانقة، وملعونة!