صناعة النجاح

 

 

 

 

 

 

 للنجاح مقومات، تصنعه اذا تحققت، ولعل من ابرزها مقوم التعليم، وتحديدا التعليم الجامعي، فبالعلم تنهض الامم والشعوب، وبه تتقدم وتتطور، وبه تحقق اهدافها السامية، ولا يشذ المجتمع العراقي عن هذه القاعدة، فهو اليوم بأمس الحاجة الى تحسين التعليم الجامعي من اجل النهوض به، وتاليا لينهض البلد من كبوته.

   يتصور البعض بان التخرج من الجامعة هو نهاية المطاف، فالشهادة تكفي لتكسب صاحبها الخبرة والمهارة والتجربة، وهذا تصور خاطئ، فالتخرج هو بداية المطاف، اذ لابد من مواصلة الطالب المتخرج ابحاثه في اختصاصه والسعي المستمر والحثيث لتحديث معلوماته ومتابعة التطور العلمي كل حسب اختصاصه، بغض النظر عما اذا قرر ان يواصل دراساته العليا ام لا؟ فالعلم في تطور متسارع ومذهل، ان على صعيد المادة او على صعيد الادوات، ولذلك ينبغي ان يظل الخريج مواكبا لمسيرة العلم، على قاعدة الحديث النبوي الشريف {اطلبوا العلم من المهد الى اللحد} وقول الامام علي (ع) {مَنْهُومَانِ لاَ يَشْعَبَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا} وقوله {كُلُّ وِعَاء يَضِيقُ بِمَا جُعِلَ فِيهِ إِلاَّ وِعَاءَ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ يَتَّسِعُ} سواء عبر شبكة الانترنيت او من خلال التواصل مع الجامعات العالمية، او الاشتراك في الكتب والدوريات والمجلات العلمية المتخصصة، او حتى من خلال التواصل مع طالب في جامعة مرموقة في هذا العالم، فالتواصل امر حيوي وتحديث المعلومات العلمية امر في غاية الضرورة، شريطة ان لا يعجب المرء بنفسه وبما اكتسب من علوم لان {الاْعْجَابُ يَمْنَعُ مِنَ الاْزْدِيَادَ} على حد قول امير المؤمنين (ع).

   هذا من جانب ، ومن جانب آخر، فان العراق اليوم بحاجة الى متخصصين اكثر بالعلوم الانسانية، كالسياسة والعلاقات العامة والاجتماع والحقوق والعلاقات الدولية والاقتصاد والقانون وغير ذلك، فهي التي تغير المجتمع وتبني الدولة المقتدرة والمجتمع السليم والنظام والقانون، ولذلك يلزمنا تشجيع الطلبة لاختيار هذه الاختصاصات على الاقل بنسبة (50%) من عدد الطلبة في العراق، كذلك، على قاعدة قول الامام امير المؤمنين عليه السلام {العلم علمان، علم الاديان وعلم الابدان} في اشارة الى العلوم الانسانية كالاجتماع والسياسة والاقتصاد والقانون وغيرها والعلوم العصرية كالطب والكيمياء والهندسة وغير ذلك، فهما جناحان لا يستغني عنهما المجتمع الذي يريد التحليق.

   وبالاضافة الى هذين العلمين، فان هناك دروس مشتركة ارى ان من المهم جدا ان يتعلمها الطالب، كل طالب، بغض النظر عن اختصاصه، من خلال تقريرها في المناهج التعليمية لمرحلة او اكثر، وهي ثلاثة:

   الاول: البيان، والمقصود به تعلم الحديث والكتابة، ليتعلم الطالب، عندما يتخرج، كيف يعبر عن نفسه، بالخطابة او بالكتابة لا فرق، والجمع اولى، فالمرء الذي لا يتمكن من التعبير عن نفسه وعن افكاره وآرائه يفشل في تسويق علمه مهما كان مستوى تحصيله العلمي عاليا، فتسويق الشخصية اهم من الشخصية ذاتها، كما ان تسويق الفكرة والراي والعقيدة اهم من الفكرة نفسها والراي والعقيدة، عقيدة العلم الذي يتخصص به الخريج، ولقد اشار الامام علي (ع) الى هذه النظرية بقوله {تَكَلَّمُوا تُعْرَفُوا، فَإِنَّ الْمَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ} ورحم الله تعالى المرجع الراحل الشيرازي (قدس سره) فما زاره او التقاه احد الا وحثه على تعلم الخطابة والكتابة، خاصة اذا كان الزائر من الشباب اليافعين، فالبيان نصف الشخصية، وهو يعبر عن شخصية صاحبه.

   ثانيا: العلاقات العامة، ليتعلم الطالب كيف يتعامل مع الاخرين، سواء كان الاخر هذا زميله في الدراسة او استاذه او تلميذه فيما بعد او زوجته او ابنه او جيرانه او زميل العمل، وكذلك المحيط الذي يعيش فيه من حجر ومدر وشجر وكل شيء، ففن بناء العلاقة تعلم المرء فن التعايش والتكامل والتعاون.

   اننا نرى احيانا عالما في اختصاص ما وربما يحمل عدد من الشهادات العليا، الا انه لا يحسن التصرف مع الاخرين في ابسط الامور، لان مدارسنا وجامعاتنا لا تعلم الطالب فن التعامل مع الاخر، بسبب غياب درس العلاقات العامة، ولهذا السبب نرى ان علاقاتنا الاجتماعية بالمجمل فاشلة ومتشنجة ومازومة لابسط واتفه الاشياء، فلا نعرف كيف نكسب ود الاخرين ولا نعرف كيف نداري الناس، صدورنا ضيقة وقلوبنا غلف وفي اكنة، لا نصغ لاحد ونزعل لابسط الامور ونغضب لاتفه الاشياء ونتقاطع مع الاخرين على لا شيء، الشك هو الحاكم في علاقاتنا، وامير المؤمنين (ع) يوصينا بقوله {لاَ تَظُنَّنَّ بِكَلِمَة خَرَجَتْ مِنْ أَحَد سَوءاً، وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مُحْتَمَلاً} الخلافات والاختلافات تتحكم في علاقاتنا ولذلك ضاع الراي السليم بسبب ذلك كما يقول امير المؤمنين (ع) {الْخِلاَفُ يَهْدِمُ الرَّأْيَ} لماذا؟ لاننا لم نتعلم فن المداراة وفن التعامل مع الاخر، فالعلاقات العامة علم بحد ذاته يجب ان يدرسه طلابنا ويتعلمونه، بغض النظر عن تخصصهم العلمي والدراسي.

   لقد قال رسول الله (ص) عن العلاقات العامة {أمرت بمداراة الناس كما أمرت بتبليغ الرسالة} او قوله (ص) {مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش} فخاطبه القرآن الكريم بقوله عز وجل {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} وان ما يؤسف له هو ان الغرب اخذ بهذا المبدا تحت شعار (الزبون على حق دائما) وانطلاق عبارة (كيف يمكنني ان اخدمك؟) على لسان المسؤول او صاحب المحل حال دخول المراجع للدائرة الحكومية او الزبون للمحل، فيما نحن لم نتعلم شيئا من ذلك ابدا، سوى العرقلة والتعقيد والتاخير لاتفه الاسباب والحجج غير المنطقية وغير القانونية، ثم زاد الامر سوءا عندما شاعت الرشوة والفساد المالي والاداري.

   ان على طلبتنا الاعزاء، وفي مختلف المراحل الجامعية على الاقل، ان يدرسوا هذا العلم، بغض النظر عن التخصص كما قلت، فالعلاقات العامة فن يجب ان يتعلمه الجميع لنغير علاقاتنا مع بعض نحو الافضل.

   ثالثا: الادارة، ليتعلم الطالب كيف يدير نفسه ومشروعه وعائلته ودائرته وكل ما يتصدى لمسؤوليته.

   هذا العلم، كذلك، هو احد اهم العلوم التي تدرس اليوم في الجامعات الناجحة بغض النظر عن الاختصاص، فكل انسان بحاجة الى ان يتعلم فن الادارة لينجح في موقع عمله، لان العلم المجرد لا يكفي للنجاح، بل ان الكثير من العلماء والمتخصصين يفشلون في اعمالهم ليس لانهم لا يحملون الشهادات الراقية او الاختصاص المطلوب ابدا، بل لانهم لا يعرفون كيف يديرون مشروعهم، ولقد اشار امير المؤمنين عليه السلام الى هذا الامر بقوله {الله الله في نظم امركم} والنظم يعتمد الادارة اولا واخيرا، فلا نجاح من دون ادارة ناجحة، وان العلم الذي يخلو من الادارة فاشل.

   اننا نخسر الكثير من الوقت والطاقات والتضحيات بسبب سوء الادارة، ولذلك فان على جامعاتنا ان تصدر الى المجتمع متخصصين بارعين في الادارة يعرفون كيف يوظفون ابسط الامكانيات لانجاز اعظم المشاريع، فذلك هو معيار النجاح والفشل، فليس فخرا ان تبني مشروعا بمئة موظف وبراس مال ومقداره مليون دولارا، انما الفخر في ان تبني نفس المشروع وبنفس زمن الانجاز المحدد له بخمسين موظفا وبراس مال وقدره نصف مليون دولار.

   ان كل خريج يجب ان يكون اداريا بارعا، بغض النظر عن تخصصه، لان كل مشروع او عمل بحاجة الى ادارة.

   ان سر نجاح الامم والشعوب هو في توظيف ابسط الامكانيات لتحقيق اكبر النجاحات، كما ان سر عظمة الناجحين في هذا العالم هو في انجاز النجاحات من العدم، ان صح التعبير، اما الذي يشترط مسبقا لانجاز اي مشروع فذلك هو الفاشل بعينه، وهو ما نلاحظه اليوم في العراق وللاسف الشديد، فما ان تتحدث عن النجاح وعن الانجاز الا وتقفز امامك شروط المتلقي التي لها اول وليس لها آخر، فلو كنت املك كل هذه الشروط لاهيئ لك اسباب النجاح، لكنت قد بادرت الى الانجاز من دون ان اتحدث اليك، انه الجهل الذي ينتج الفشل، بسبب كثرة التعلل وسوق الحجج الواهية للتهرب فحسب، وصدق امير المؤمنين (ع) الذي قال {قَطَعَ الْعِلْمُ عُذْرَ الْمُتَعَلِّلِينَ}