بريتن وودز.. مؤسسات الخداع والإخضاع

 

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أضحت الضرورة ملحة لبناء هيئة أممية على أنقاض (عصبة الأمم) يفرض فيها المنتصرون أيدلوجياتهم السياسية والاقتصادية, وأثناء الهبة الدولية لبناء (الهيئة العامة للأمم المتحدة) أنشأت بهدوء ثلاث مؤسسات متعددة الجوانب للعمل بعيدا عن أنظار الناس, وهي (البنك الدولي للإنشاء والأعمار-البنك الدولي) و(صندوق النقد الدولي) و(الاتفاقية العامة للتعرفة الكمركية والتجارة) عرفت فيما بعد بمؤسسات (بريتن وودزBritton woods –) نسبة إلى اجتماع ممثلي (44) دولة في (بريتن وودز) في ولاية (نيو هامشاير) الأميركية في (22/7/1944), للاتفاق على إطار مؤسساتي لاقتصاد عالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية, وكان الهدف المعلن هو لتوحيد العالم في شبكة من الرفاهية الاقتصادية والتعاون المتبادل للحؤول دون لجوء الأمم إلى استعمال السلاح, والهدف المخفي في ذهن مهندسي الاتفاقية هو في خلق اقتصاد عالمي مفتوح وموحد بقيادة الولايات المتحدة يضمن وصولها إلى الأسواق والمواد الأولية العالمية دون عوائق. وعلى الرغم من إن مؤسسات (بريتن وودز) وصفت رسميا بأنها (وكالات متخصصة) تابعة للأمم المتحدة, إلا أنها مستقلة عنها استقلالا تاما, وان إجراءات هذه المؤسسات الإدارية سرية وبعيدة عن أنظار الجمهور والنقاش الديمقراطي, بل إن إجراءاتها بالغة السرية حتى مدراءها التنفيذيين, وتتمتع الدول العظمى فيها بسلطة واسعة وبحصص من التصويت تتناسب مع حصتها من رأس المال المكتتب لضمان قدرتها على وضع البرامج والسيطرة عليها. اتبع (البنك والصندوق الدوليين) منذ أوائل الخمسينات من القرن الماضي خططا تهدف إلى إزالة العقبات التي تعترض طريقهما في مختلف بلدان العالم, فمنح الأولوية لمشاريع (بناء المؤسسات), والهدف هو خلق مؤسسات دستورية حكومية مستقلة, تعمل بمعزل عن حكوماتها وتكون من بين المقترضين المنتظمين لهما, وأرادت من وراءها ضمان استقلالية هذه المؤسسات استقلالا تاما عن حكوماتها, وان يكون العاملين فيها من (التكنوقراط) ألعابري الحدود من الذين تربطهم أواصر مهنية ومالية مع (البنك والصندوق الدوليين), أي إن ولاءهما سيكون لهما أكثر من ولاءهم لبلدانهم. ومع ازدياد المديونية للدول الأكثر فقرا في العالم بداية السبعينات, أصبح التخلف عن سداد الديون وفوائدها أمرا حتميا هدد النظام المالي العالمي بالانهيار, فتدخل (البنك والصندوق الدوليين) بوصفهما مشرفين على النظام المالي العالمي, شانهما شان الحراس القضائيين الذين تعينهم المحاكم في حالات اختلاس المال العام لتصحيح الأوضاع المالية بين البلدان المفلسة وبين النظام المالي العالمي, تضمنت فرض مجموعة من الإجراءات القاسية على الدول المدينة تحت عنوان (برامج التصحيح الهيكلي), دعت إلى إصلاح سياسي واقتصادي عاجل بهدف توجيه الموارد والنشاطات الإنتاجية لإعادة دفع الديون, وإزالة الموانع القانونية والتشريعية لاقتصاديات الدول المدينة أكثر أمام الاقتصاد العالمي, وخفضت القيود على التعرفات الكمركية على كل من الصادرات والواردات, ومنحت الحوافز لجذب المستثمرين الأجانب, فيما تجنبت هذه الاصطلاحات المساس ببعض المشاكل الجوهرية (كخفض امتيازات الأثرياء وامتيازات النخب الحاكمة), فيما منحت امتيازات أخرى للمصدرين والمستوردين الأجانب حصرا, كما شملت أيضا خفض الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية المقدمة للطبقات الفقيرة, لتوفير الأموال اللازمة لتسديد الديون, فكان إن ارتفعت نسبة تسديد الفوائد في الموازنات العامة لدول أميركا اللاتينية من (9%) إلى(19,3%) ومن (7,7%) إلى (12,5%) في إفريقيا, وما زالت الدول التي أسلمت قيادها لهاتين المؤسستين تعاني الأمرين, ديون متراكمة تتضاعف فوائدها, وفقر مدقع يعاني منه أفراد الشعب حتى بلغت دول مديونية العالم الثالث عام 2004 (2.5) تريليون دولار بلغت فوائدها (375) مليار دولار سنوياً، وهو رقم يفوق ما تنفقه كل دول العالم الثالث على الصحة والتعليم ويمثل (30) ضعفاً لما تقدمه الدول المتقدمة سنويا من مساعدات خارجية, وبلغت فوائد القروض فقط لبعض الدول كالاكوادور مثلا (50%) من حجم الموازنة العامة و (30%) من حجم الموازنة العامة للمكسيك. هذه الإصلاحات لم تكن تسعى إلى مساعدة الدول المدينة في إصلاح اقتصادها, بل فاقمت من ديونها, وكان هنالك هدفان من وراء هذه الإصلاحات أولهما, ضمان إعادة دفع القروض الممنوحة من المصارف التجارية والمتعددة الأطراف, لهذا السبب أكدت توكيدا قويا على السياسة المؤيدة لتعزيز الصادرات وجذب الاستثمارات الأجنبية لاستقطاب العملات الأجنبية, والثاني تمثل في عولمة الاقتصاديات المحلية, فألغيت الحواجز أمام الاستيراد, فأدت هذه البرامج إلى زيادة نسبة العجز في الموازنات العامة وانخفاض المستوى المعيشي وارتفاع نسبة الفقر في الدول المدينة, بالإضافة إلى إطلاق يد الحكومات في قمع التنظيمات النقابية للإبقاء على المستوى المتدني للأجور ومعايير العمل, ووقف العمل بالقوانين البيئية, كما إن انخفاض أثمان المواد الأولية المصدرة وعودة الأرباح للمستثمرين الأجانب وزيادة الطلب على استيراد السلع المصنعة التي حفزتها هذه البرامج, وخفض حواجز التعرفة الكمركية أدى إلى عجز تجاري مزمن في معظم البلدان النامية. إن ازدياد مديونية الدول الفقيرة أفرز مشكلة إضافية خلقتها مؤسسات (بريتن وودز) بوصفهما جابي الديون العالمية, فقد ازداد تدخلهما في إملاء شروطهما في السياسة العامة على البلدان المدينة وتقويض التقدم المنشود نحو الحكم الديمقراطي والمسؤولية العامة فيها, فهما مؤسستين بيروقراطيتين عالميتين ذات دور تسلطي, يتخذا قرارات عن شعوب هما غير مسؤولين أمامهما نيابة عن الهيئات التشريعية المنتخبة, فعملية إقراض الأموال التي خلقت المديونية ومن ثم أعطاء نفسيهما الحق بإملاء سياسة البلدان المقترضة تمثل هجوما صارخا على المبادئ الديمقراطية, وقد أوضح الناشط في مجال حقوق الإنسان (جوناثان كان/ مجلة هارفارد لمراقبة حقوق الإنسان) :((لابد من النظر إلى (البنك والصندوق الدوليين) بوصفهما مؤسسة من مؤسسات الحكم, يمارسان سلطة من خلال مركزيهما الماليين لتشريع مجمل الأنظمة القانونية, بل حتى تغيير الهيكل الدستوري في الدول المقترضة, وفي اغلب الأحيان يعيد مستشارون توافق عليهم هاتين المؤسستين في كتابة السياسة التجارية والمالية لبلد ما, ومتطلبات الخدمات المدنية وقوانين العمل وإجراءات الرعاية الصحية والأنظمة البيئية, وسياسة الطاقة ومتطلبات إعادة التوطين وقوانين الحصول على الأموال والسياسة الخاصة بالموازنات العامة)). وقد سعت هاتين المؤسستين للتغلغل في اقتصاديات العالم من خلال دعم فئة من رجال الأعمال عابري الحدود, ممن لهم صلات بالبنوك والشركات العابرة في الدول المستهدفة, إضافة إلى مجموعة من (البيروقراطيين) التقنيين من ذوي الكفاءة العالية ممن درسوا الاقتصاد في الجامعات الغربية وتأثروا بالنظام الاقتصادي هناك, فكانوا ينسجمون انسجاما وثيقا مع أيدلوجيات مؤسسات (بريتن وودز) وميالين للاستجابة أكثر للدوافع التي تجذب الاقتصاد الوطني نحو المدار العالمي, لذلك كانوا حلفاء طبيعيين (للبنك والصندوق الدوليين) والسعي لدعمهم سياسيا وإيصالهم لمراكز صنع القرار بشتى الوسائل, وتكوين مجموعة من العائلات الثرية ذات نفوذ اقتصادي وسياسي داخل الدولة المدينة تشكل امتدادا للنخبة الأميركية من خلال اعتناق نفس أفكارها ومبادئها وأهدافها، بحيث ترتبط سعادة ورفاهية الأثرياء الجدد بالتبعية طويلة المدى للولايات المتحدة. ولهاتين المؤسستين دور قذر في تفشي الفساد في الدول النامية حتى ارتبط وجود مستشاريها واستشاراتها في أية دولة باستشراء الفساد, وحتى الاتفاقيات الخاصة بالقروض فان التفاوض يجري عليها تفاوضا سريا بين مستشاري هاتين المؤسستين وبين مجموعة صغيرة من كبار المسؤولين للدولة المقترضة, الذين هم في كثير من الحالات يمثلون حكومات ضعيفة تفتقر إلى الحنكة السياسية والدراية الاقتصادية وغير جديرين بتحمل المسؤولية, وحتى في البلدان ذات النظم الديمقراطية فان إجراءات الاقتراض يتم تمريرها بخداع المؤسسات التشريعية للدولة, وهكذا يتسنى للحكومات الفاسدة من زيادة موازناتها لزيادة أنفاقها دون موافقات تشريعية حتى لو تحققت لها العوائد المالية الكافية لتغطية موازناتها العامة فان الاقتراض لا مناص منه, ومن خلال القروض يحصل المسؤولين الحكوميين الموقعين عليها على (العمولة) التي يتقاضوها عرفانا بجميلهم وتخلق هذه (العمولات)حافزا قويا للإكثار من الاقتراض وتطويق أعناق شعوبهم بالتزامات مالية مستقبلية خارج نطاق أي مراجعة أو موافقة منهم, ويصبح الأمر كارثيا بالنسبة للشعوب ويزداد الأمر تعقيدا عندما يحين موعد السداد, ليكون الفقراء من الشعب هم وحدهم من يدفع فواتير القروض وفساد حكوماتهم. يقول (جون بيركنز) احد كبار المخططين لسياسات (صندوق النقد) ..." لو فشلنا في استمالة دولة ما فان الثعالب ستدخل الساحة, وهؤلاء هم رجال الأعمال القذرة الذين لا غنى عنهم لمن يحكمون عبر الحدود, إنهم دائما هناك في الظل, وإذا ما ظهروا ستسقط رؤوس رؤساء دول أو يموتون في حوادث عنيفة, وإذا ما فشل الثعالب فان شباباً أمريكيين يرسلون ليقتلوا ويُقتلوا". وهو ما حدث في بنما وأفغانستان و العراق، فلا عجب أن نرى رئيس البنك الدولي السابق (بول وولفويتز) من أهم المنظرين لاحتلال العراق.