دكاكين تعليميّة... بقلم: عبد الرزاق الربيعي

 

 

 

 

 

 

حين قال الشاعر معروف الرصافي مخاطبا الحكومات والمؤسسات التعليميّة والتربويّة:

ابنوا المدارس واستقصوا بها الأملا/ حتى نطاول في بنيانها زحلا

لم يكن يتصور أن المدارس ستتصاغر حتى تصبح عبارة عن دكاكين صغيرة، الهدف منها الربح، الذي يسعى له كلّ من لديه رغبة بمشروع يدرّ عليه ربحا، وما عليه سوى أن يستأجر بيتا، ويفتح مدرسة من فصلين أو ثلاثة، يختار لها اسما له رنّة، وطنّة، يكتب على واجهتها "مدرسة . . . الأهلية تحت إشراف وزارة التربية والتعليم". وطبعا، لا بدّ، هنا، أن أستثني المدارس التي تمتلك بنايات خاصّة بها، وتتوافر فيها سائرُ المواصفات التي تمدّ التلميذ بعلوم ومعارف، توسّع من مداركه في مرحلته العلميّة. ومثل هذه العلوم قد لا توجد في المدارس الحكوميّة، رغم تثميني للكثير من هذه المدارس، فيرسل أولياء الأمور أبناءهم إليها، رغبة في الاستزادة مما ينهل أترابُهم في المدارس الحكوميّة، وهي مدارس تستعين بخبرات ومناهج خاصّة، يخضع القبول بها لاختبارات، من أساتذة مختصين، لكن الذي أقصده، هنا، المدارس الصغيرة، التي تنشأ في البيوت، فيلتحق بها التلاميذ الذين تقع البيوت التي يقطنونها قريبا منها، وتتم الاستعانة بمعلمات، غالبا ما يكنّ مصاحبات لأزواجهنّ للعمل بها، بدلا من الجلوس في البيوت، تزجية للوقت، لقاء ثمن بخس، ويأتي مالك المدرسة بمدير أو مديرة، على "قد تمشية الحال"، لا خبرة في الإدارة، ولا التدريس، إلا في الأوراق الرسميّة، إن لم يتصدّ المالك نفسه لهذه المهمّة، توفيرا للمزيد من الريالات.

وتتم الاستعانة بحافلة صغيرة تستأجر مع سائقها، في الكثير من الأحيان، بعد وضع اسم المدرسة عليها، لنقل التلاميذ الذين تقع بيوتهم على مبعدة من ذلك. ويستمر الحال هكذا، وبشكل متعثّر، فلا أنشطة مدرسيّة، بدعوى إنّها مدرسة صغيرة، ولا تلاميذ إلا بعدد محدود. وبعد مرور سنة أو سنتين من هذا الوضع، يشعر المالك بأن هذا المشروع لا يغني ولا يسمن من جوع ، بالشكل الذي خطّط له، فيغلق أبوابها، ويعود من حيث أتى، والضحيّة الوحيدة، من جرّاء تلك المغامرة، التلاميذ، فلا هم انتظموا بمدرسة، بمعناها الحقيقي، أي: فصول، وأنشطة، ومختبرات، وملاعب، وساحات واسعة، وفضاءات رحبة، وحدائق، وليس غرفا مصمّمة لتكون للنوم والاستراحة. وبعد إغلاق أبواب تلك المدارس، أو توقّفها عند صفّ دراسي أو صفّين، سيضطر أولياء الأمور لنقل أبنائهم إلى مدارس جديدة، فيفقدون علاقاتهم مع زملائهم، ويضطرّون إلى بناء علاقات جديدة. وهذا له آثار نفسيّة سلبيّة على التلميذ بالطبع.

دارت برأسي هذه الخواطر، وأنا أصغي لجارتنا المربيّة التي تأخّرت عن الدوام، لأنّ سائق سيارة الأجرة الذي يوصلها، إلى مدرسة من هذا النوع، تخلّف عن الحضور، ولم تتكفّل المدرسة بإيصالها، لعدم وجود تلاميذ بالقرب من سكنها، وحين ذهبت لتستأجر سيارة أجرة أخرى، لم تجد، فتأخّرت، فانهالت عليها الاتصالات، لأنّ مفتاح المدرسة بحوزتها، لعدم وجود حارس، ولا منظّفة. وفي حالة تأخّرها، يقف التلاميذ في الشارع. وهذا ما حصل، فإذا كانت هذه المدرسة لا تمتلك مفتاحا إضافيّا، كيف يمكنها أن تؤدّي رسالتها العلميّة على وجه حسن؟

وهنا، أقول: أتمنّى من أولياء الأمور عدم الأخذ باللافتات، وأن يختاروا لأبنائهم المراكز التي يتعلّمون بها، فإمّا يلحقونهم بمدارس خاصّة ذات مواصفات جيّدة. وإذا وجدوا أن تلك المدارس تطلب مبالغ ومصاريف كثيرة، قد لا تقوى ميزانياتهم عليها، فالأفضل أن يلحقوا أبناءهم بمدارس حكوميّة. وللاستزادة في تطوير مهاراتهم، يمكن لأولياء الأمور إلحاق أبنائهم بدورات تدريبيّة، في العطل والإجازات. وكفاهم الله المتاعب.

ومثلما بدأت مقالي ببيت للرصافي، فإنني أختمه بتساؤل أوجهه لأصحاب تلك المدارس، ورد في بيت آخر من القصيدة نفسها:

وأيُّ نفعٍ لِمَنْ يأتِي مَدَارسَكُمْ/ إنْ كانَ يَخْرُجُ منها مثلَمَا دَخَلا؟