حين يفقد افراد امة او اسرة او قبيلة او حزب او دين او وطن شعورهم بالانتماء تفقد تلك الكيانات مكانتها وتتشتت قوتها و شملها وينفض عنها ابناؤها وتترنح امام ابسط الضربات قوة واخفها تاثيرا .
وفقدان الشعور بالانتماء له اسبابه ومبرراته تلك الاسباب لابد ان تكون قوية ومؤثرة وصادمة كي تفعل فعلها في نفوس الافراد لينسلوا من حواضنهم الاجتماعية الى حواضن اخرى تعزز شعورهم الانتمائي المفقود .
والهروب من الانتماء الى الوطن لدى العراقيين لم يك وليد العشر سنوات الماضية فحسب بل هو ابعد من ذلك بكثير صحيح ان السنوات العشر الاخيرة عززت ذلك التنصل الى كفة انتماءات تشرذمية وانشطارية تمثلت على المستوى المذهبي والمناطقي والفئوي الا ان ولادة الشعور بالانهزام من الوطنية لدى العراقيين تمتد الى اكثر من ثلاثين سنة مضت قبل الاحتلال حين صنف الحاكمون ابناء البلد الواحد الى فئات ودرجات وطبقات وابتدأت اولا ببدعة الانتماء الى الحزب الحاكم انذاك والقومية العربية والعروبية التي لها حق الحكم والرئاسة ومرورا بالقبائلية والعشائرية وتصنيفها وفقا لرؤى طائفية وعنصرية وليس انتهاءا بالمناطقية والاسرية المميزة بالصلاحيات والامتيازات المطلقة.
كان يكفي ان يضع احدهم درجة (رفيق ) او يكتب بعد اسمه لقب (التكريتي )او (ال......) او (ال......)
اويمرن لسانه وفمه على بعض الكلمات المعروفة لمنطقة معينة حتى ينال الدرجات العليا في كل مفاصل الدولة ودوائر الحكومة الرسمية والسياسية و يحظى بالدرجات الوظيفية المهمة والعالية .
في المقابل كان البعض يخشى ان يكتب قوميته او لقبه في اي استمارة رسمية وحاول المئات من الكورد الفيلية تغيير قومياتهم والقابهم بل واسماؤهم خشية من التمييز العنصري الشوفيني الذي مارسته اجهزة النظام البعثي ضدهم وضد غيرهم من العراقيين وكان الشباب المنحدر من اصول فراتية او جنوبية يتحاشى وبكل ما استطاع من امكانيات لفظ .....(جا ) .....التي تميز بها لهجة ابناء الجنوب والفرات الاوسط لانها ستكشف انتماؤه المناطقي وبالتالي تؤشر الى طبقته الاجتماعية المتدنية في نظر اجهزة الدولة ودوائرها انذاك وستجلب له ولمستقبله متاعب ليس من الحكمة التعرض لها .
واضحى الانتماء الى العراق محصورا باصطلاح (العراقيين الشرفاء ) وهو تعبير استخدمه البعثيون لتمييز (غير الشرفاء)حسب تعبيرهم !!! ممن يعارض سياسات نظام البعث العنصرية الشوفينية تجاه ابناء الوطن الواحد ولكي يسلب صفة الشرف عن كل عراقي لا يهادن ظلم البعث واستهتاره ووفقا لاحكام القانون الصدامي صارت جميع الاحكام التي تصدر بحق معارضي النظام وما اكثرهم والهاربين من معارك صدام الحمقاء المهلكة الفارغة (جريمة مخلة بالشرف ) واصدر الاف الاحكام باسقاط الجنسية العراقية عن عراقيين هم اكثر عراقية و اصالة من صدام وعائلته ورفاقه .
وتعامل مع الكورد بقسوة وهمجية واجرام منطلقا من بغضه وحقده على انتماؤهم القومي ومع الشيعة منطلقا من انتماؤهم المذهبي ووصلت قمة الصلافة ان تنشر جريدة الثورة الناطقة بلسان البعث المقبور سلسلة مقالات بعد قمع الانتفاضة الشعبانية عام 1991 تتهم فيها نصف شعب العراق (الشيعة ) بانهم فرس ومجوس !!!وليسوا عراقيين اصلاء وانهم اقوام نزحوا كرعاة مع الجواميس واستوطنوا الاهوار وجنوب العراق .
كل ذلك نخر في نفسية الفرد العراقي شعوره بالانتماء للوطن وعزز مفهوم التنصل من المواطنة والانتقال الى حواضن انتماء اقل شمولية واكثر خصوصية فتعزز مفهوم الانتماء للقبيلة والعشيرة والاسرة واحيانا الى المذهب والطائفة بدلا من الوطن .
فصل البعثيون المواطنة وفقا لامزجتهم الطائفية والعرقية ومفاهيمهم السياسية العنصرية وتحكموا بعراقية العراقيين ليجعلوها فئات وطبقات ودرجات هي ابلغ مثال للانظمة العنصرية الدكتاتورية وبعد ان كان العراقيون في ماسبق تلك الحقبة السوداء من تاريخ العراق يرون ان عراقيتهم تتقدم على غيرها من المعاني والانتماءات الاخرى ويفخرون بشدة ولائهم لوطنهم وبلدهم صاروا ينظرون الى المواطنة وفق معنى الولاء للقائد الضرورة ولعصابات البعث المنحل و باتت صفة (الوطني ) تطلق على ابواق النظام وجلاديه ومخبريه وحثالاته القميئة
ثلاثة اجيال تربت على هذا المفهوم البائس انتج عراقيين لا يربطهم بالعراق سوى صفة المكان ولاتحمل صدورهم الا الخواء والفراغ من الوطنية وحب الوطن .
هرب الالاف من الظلم والجوع والحرمان والاضطهاد رامين خلفهم اخر مايربطهم بالعراق ومتخلين عن ورقة رسمية بائسة تدلل على انهم عراقيون بعد ان تيبست في عواطفهم ومشاعرهم كل معاني الوطنية متخلين عن انتماء سلبهم اياه جور وظلم وعنصرية ودكتاتورية الحاكم .
وظل من لم يحالفه الحظ في الهرب يراوده الاحساس بدونية الانتماء وهشاشة الحصن الذي من المفروض ان يحمي انتماؤه لوطنه .
هذه السلبية التي نمتها سياسات وتصرفات عصابة البعث الحمقاء تمثلت بوضوح حين انهار النظام وسقط السوط من يد الجلاد وتسارع (وطنيوا البعث ) في الهرب والاختباء والاختفاء في الحفر والمجاري والمغارات المظلمة ليسرق ابناء الوطن وطنهم ولينهب العراقيون بلدهم .
متوهم من يظن ان السراق او(الحواسم ) كانوا قلة قليلة من العراقيين او عصابات اجرامية متمرسة ومنظمة للسرقة فالكثير منا عاش تلك الاحداث وتفرج على ما جرى في العراق وتفاجأ اغلبنا وهو يرى اخاه وقريبه وجاره وصديقه هم ابطال تلك الاحداث المؤلمة والقاسية على ضمير الامة العراقية هذا الحدث المهم والرهيب في ذاكرة الوطنية العراقية في الواقع ليس ببعيد عن الشعور الذي تنامى في نفس الفرد العراقي نتيجة للتشوهات التي حفرتها ثلاثون سنة مضت قبل 2003 من طمر للشعور بالانتماء للوطن وتشويه لمفهوم الوطنية اوجد في الذات العراقية وباء اللامبالاة والتجاهل لمفهوم عظيم ورائع من المفاهيم الانسانية الراقية تترجم الى فعل قبيح وشعور بالعار سيظل يلاحق تاريخ هذه الاجيال الى امد ليس بالقريب .
سقط نطام البعث الصدامي الشوفيني العنصري بعد ان خرب في الذات العراقية كل معاني الوطنية الصحيحة واوجد اجيالا غارقة في عتمة تخبط الانتماء وتشرذم الولاءات وبدلا من ان يكون الاحتلال الامريكي البغيض حافزا ومنطلقا لتوحد الكلمة وتوحيد الصفوف انقسمت الارادة العراقية انقسامات خطيرة ليست ببعيدة عن المفاهيم المشوهة للوطنية بالمفهوم البعثي وبدلا من ان تنطلق فصائل المقاومة العسكرية للاحتلال من المنطلق الوطني البحت كما هو ديدن الاوطان التي تتعرض لما تعرض له العراق وتجعل نصب غايتها مقاومة جيش الغزاة تجدها توجه فوهات بنادقها ونيران مفخخاتها الى ابناء الشعب الواحد والوطن الواحد وبدلا من ان يكون مفهوم المقاومة مفهوما وطنيا غايته حماية الوطن والامة وتخليصها من نير المحتل انقلب الى مفهوم المقاومة الى مفهوم الدفاع عن البعث وقائده الضرورة وفوضى طائشة الهدف منها الانتقام من كل الفئات المظلومة والمحرومة التي اسعدها زوال ظلم وقهر النظام السابق .
ولان ذلك يعني تخوين من خونه البعثيون واقتصار الوطنية في منظورهم لمن يقدم الولاء والطاعة لسطوتهم واجرامهم وقتلهم وبدلا من ان توحدنا الشدائد التي مر بها العراق انبرينا نحمي ذاتنا بالانظواء تحت انتماءات اصغر واخص فصارت القومية والطائفة والمذهب والحزب والكتلة اكثر التصاقا بنا من الانتماء الوطني وهو عذر قد ينتقده وينكره من لايعرف ما جرى وما يجري في العراق ولكن من عاش احداث قتل الجار لجاره وتهجير الاخ لاخيه واختطاف القريب لقريبه يدرك انه لم يكن من حل امامنا الا ذلك الانزواء والانقسام والاحتماء بالانتماءات الادنى من الانتماء الاعم الذي قد يكون سببا في قتلنا وابادتنا .
من هذا المنظور ومن قاعدته تشكلت ملامح العملية السياسية الجديدة لما بعد الاحتلال وتبدل مفهوم الاختيار الوطني لمن يصلح لتمثيلنا نيابيا وسياسيا الى اختيارات الاخص دون النظر الى مقومات صلاحه وصلاحيته لنيل ثقة المواطن وكان ذلك سببا اكبر واكثر خطورة في تعميق النزول من قمة الوطنية الى دخولنا في مجاهيل دروب الانقسام وتكريس التجزء والانطواء على النفس وتنامي الفكر الاقصائي وتصاعد التقتيل الطائفي والقومي والمناطقي على مستوى واسع وكبير نال خطره كل العراقيين وفي كل مكان .
وبدلا من ان نعالج ذلك الشرخ الكبير في الوطنية العراقية وبدلا من ان نعود الى تاريخ الدولة العراقية الوطني الموحد الذي سبق تاريخ البعث الاقصائي الاسود وبدلا من ان يكون العراق مشتركنا الاكبر وانتمائنا الاعم اصبح البعض ينظر الى مفهوم جديد طرح في الساحة السياسية العراقية وهو مفهوم التقزم والانفصال والاقلمة .
ولم تكن غايات اصحاب هذا المشروع بريئة او سليمة فمشروع الاقاليم الادارية للمحافظات طرح بعد عام 2004 على اساس انه مؤسسة ادارية لاتخرج عن عباءة الحكومة المركزية وكان اصحاب المشروع الاول يبغون من وراء ذلك تحقيق الرفاهية وتقديم الخدمات النموذجية لابناء محافظاتهم والسعي الى الرقي بمحافظاتهم (كاقليم ) الى مستوى مشابه لما قدمه اقليم كوردستان من نموذج اقتصادي واداري حقق في 15 سنة من الادارة ماعجزت عنه حكومة صدام بامكانياتها من تحقيقه للعراقيين ورغم الفرق الواضح بين نسخة مشروع الاقاليم بصورته الاولى الا انه جوبه بمعارضة القوى المشاركة في العملية السياسية لاسباب مختلفة منها التمسك بالوحدة الوطنية وعدم تقسيم العراق .
اما المشروع المراد له ان يفرض على العراقيين بنسخته الثانية فهو مشروع اقليم طائفي لا اداري غاياته الابتعاد عن ارادة الحكومة المركزية سياسيا وامنيا واقتصاديا وعسكريا وكان يراد له ان يكون حاضنة للبعثيين وعصابات القاعدة والقتلة من اعداء النظام السياسي والعملية الديموقراطية الجديدة .
جوبه هذا المشروع في بداياته برفض حكومي وشعبي واعلامي عراقي واتهم اقطابه ومنظريه بانهم ينفذون مشروعا امريكيا لتقسيم العراق (مشروع بايدن ) ولكي يستطيع هولاء من تمرير مخططاتهم المشبوهة وليحشدوا لمواقفهم شعبيا بدأت صفحة جديدة من مخطط هز الوطنية والشعور بالانتماء للوطن في نفوس المواطنين البسطاء فانطلفت حملاتهم المسعورة ومن كل الاتجاهات بالتشكيك في كل شيء بدءا من اتهام الرموز الوطنية بالعمالة والارتباط بالدول الاقليمية وتنفيذ مخططاتها المزعومة وزعزعة الثقة بولاء القوات الامنية للعراق والعراقيين واتهام الاجهزة القضائية والقانونية بظلم احكامها القضائية تجاه مكون معين والاتهامات بتفرد ادارة الدولة والمؤسسات الامنية من قبل طائفة معينة .
نجحت هذه الماكنة الاعلامية المسمومة الموجهة ضد العراق كوطن واحد موحد في تلبيس الامور على المواطنين لتعزز ذلك التهافت المتاصل في الشعور الوطني لدى اغلبنا .
قبل ايام التقى بي ضابط برتبة (مقدم ركن ) ينتمي الى احدى عشائر الرمادي وهو من الضباط الذين التحقوا في الجيش منذ بدايات تشكيله عام 2005 وهو من الضباط الاكفاء وممن له مواقف شجاعة في مجابهة الارهاب والارهابيين وشغل مناصب مهمة وخطيرة في القوات الامنية وتفاجأت من نبرة جديدة لم اسمعها منه سابقا حين قال (نقلوني الى منطقة ....... والى منصب ....... لاني سني ) ورغم ان هذا المنصب هو في مجال تدرجه الوظيفي ولابد ان يخدم به كي يترقى الى منصب اعلى كما هي سياقات العمل العسكري والامني الا ان هذا الشعور الجديد المتولد لديه غريب في مجال المؤسسة العسكرية على اعتبار ان واجبات هذه المؤسسة واجبات وطنية ولا يهم ان يكون موقع الخدمة فيه شمالا او جنوبا شرقا او غربا .
لقد احدث تاثير السلوك الجمعي الموجه شرخا في وطنية هذا الرجل وامثاله ولعل كل مايحدث اليوم من مساجلات واتهامات واثارة الشكوك والمخاوف سيؤدي الى النتيجة المبتغاة من مؤامرة تحطيم ماتبقى من وطنية الوطنيين
ولا استبعد ابدا ان الاحداث الاجرامية اليومية التي تتفجر في كل اركان العراق منبعها هذا الشعور المر الذي بدأت ملامح اهتزازه تترسخ منذ سبعينات القرن الماضي وتزداد قوة كل ما تسارعت الاحداث باتجاهات اخطر .
شعور العراقيين باللاانتماء للعراق كبير والضمير الوطني متشرذم والوطنية في دواخلنا ممزقة وعلتها واضحة واذا ما اردنا ان نجمي ماتبقى من العراق فعلينا ان نبني وننمي الشعور بالانتماء الى العراق وانه اكبر من الطوائف والمذاهب والقوميات والقبائل والاحزاب والكتل والجماعات والاقاليم والمحافظات حينها يمكن ان يغار العراقي على عراقيته ويحمي العراقي اخاه العراقي سواءا كان عربيا او كرديا سنيا اوشيعيا عبد الزهرة اسمه ام عمر او كاكا بكر .
فلنجرب تعزيز الشعور بالانتماء للوطن او الوطتية التي فقدها اغلبنا منذ زمن بعيد فربما تكون هي الحل .