همس في فضاء الثورة التكنولوجية المعاصرة

 

إن الظروف التي فرضت على الإنسان البدائي تحفيز قدراته، أفرزت أعمال ومواد تعد في واقعها الموضوعي عجينة التطور الانساني، بوصفها أقدم المحاولات الإنسانية لارتقاء سلالم المعرفة التي شكلت اللبنة الأساسية لحضارته وتمدنه. وقد تعددت رؤى الباحثين حول صياغة تعريف محدد لمفهوم التكنولوجيا، غير أن أكثر هذه التعريفات توصيفا، وأشملها مضمونا هو ( كل ما يخص الآلة والمنظومات وآلياتها وطرق السيطرة عليها، وتنظيم تطبيقات معطيات العلوم المختلفة في أطر المفاهيم الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. وإذا سلمنا بحداثة مفهوم التكنولوجيا، بوصفه من أبرز الإنجازات المهمة التي تحققت في ظل الاكتشافات والاختراعات والتطورات العلمية التي أفرزتها المجتمعات الحديثة، فإن كثيرا من الباحثين يعيد التكنولوجيا بإطارها العام إلى عصور سحيقة ،بالاستناد إلى ممارسات الإنسان البدائي العملية التي تعد في نظر أصحاب هذا الرأي أسس تكنولوجيا قامت عليها الحضارات الإنسانية القديمة. ويمكن القول أن ممارسات هذا الإنسان جاءت استجابة لضرورات حياته البدائية، فأثمرت آلات وأدوات بسيطة كانت السبب وراء تسميته بـ (الحيوان صانع الأدوات ). وعلى الرغم من جهله بطبيعة وأسرار المواد الداخلة في تشكيل أعماله، فإن ما خلفه من آثار لا تتعدى مواردها الطين والحبر تركت بصمات معرفية مهمة في الجسد الثقافي الإنساني. وفي غمرة الصراعات الدولية التي كانت تدور حول توسيع مناطق نفوذ الدول الاستعمارية، استيقظ العالم في النصف الثاني من القرن الثامن عشر على مداخن المصانع في بعض البلدان الغربية، بوصفها عنوانا للثورة الصناعية التي تتركز فلسفتها العامة في تكييف إمكانيات الإنسان العضلية؛ لزيادة قدراته على الإنتاج، ثم ما لبث أن امتدت مضامين هذه الفعالية إلى حواس الإنسان كلها محدثة تحولات جوهرية بمفاهيم الانتاج وإدارته. وهو الأمر الذي أفضى إلى تغييرات عميقة في المجتمعات الإنسانية في المرحلة التاريخية التي سبقت قيام هذه الثورة التي يشار اليها في الأدبيات الاقتصادية باصطلاح ( الثورة التكنولوجية الأولى ). ولا نبعد عن الواقع إذا قلنا أن من أبرز المعطيات المهمة لهذا التاريخ المفصلي هو التقدم الصناعي الذي أسس لمشروع المجتمعات التكنولوجية التي أسهمت بتعميق الفجوة الحضارية القائمة بين دول الغرب وبلدان العالم الثالث التي كانت ثرواتها وخيرات أهلها تتعرض إلى الاستلاب، ويخيم على شعوبها ظلام التخلف والحرمان، وتنهش الأمراض الوبائية بأجساد أبنائها المتعبة، ما يعني أن ليس بمقدور أعتى إنجازات العالم المتقدم إيقاظها من سباتها العميق. ومن هنا كان التاريخ الإنساني يدون اللحظة الحاسمة للافتراق الحضاري بين شعوب الشمال وأغلب أقوام الجنوب التي ما يزال القسم الأعظم منها يئن تحت وطء الاختناق. وقد لا يكون من الضلال القول أن مجريات الحربين العالميتين أسهمت بتسريع التطورات التكنولوجية المعاصرة، فالحرب الكونية الأولى قدمت الدبابة التي سحقت بميزاتها الفنية والتعبوية نظرية ( حرب الخنادق ) التي كانت سائدة في جبهات الموت، حيث شهدت معركة السوم عام 1916 م أول ظهور للدبابة في مطلع القرن العشرين بعد أن زود الجيش البريطاني بدبابات بريطانية الصنع العلامة مارك-1؛ لكسر جمود الجبهة في حرب الخنادق ضد الألمان. وعلى الرغم من عدم فاعلية تأثير الدبابة في تغيير نتائج الحرب بداية دخولها الخدمة، إلا أن تأثيرها كان حاسما في معركة ( أمينس ) عام 1917 م عندما تمكنت قوات الحلفاء من اختراق المواقع الألمانية بفضل دعم الدروع. وهكذا تطور دور الدبابات كسلاح ليحقق الاختراق، ومن ثم الاستفادة منه لتطويره والتغلغل لمهاجمة العدو في العمق. في حين أيقظت الحرب الكونية الثانية البشرية بأسرها على هول صدمة القنبلة الذرية التي أحدث استخدامها نتائج كارثية عصفت بالإنسانية وأفسدت ضميرها بعد أن قامت الولايات المتحدة بشن ضربتين نوويتين ضد اليابان في مدينتي هيروشيما وناغازاكي خلال المراحل الأخيرة من هذه الحرب في عام 1945. إن مرحلة الحرب العالمية الثانية وما بعدها تعبر تاريخيا عن الثورة التكنولوجية المعاصرة أو الثانية التي تجاوزت في أطرها وآلياتها إمكانيات الإنسان العضلية وحواسه التي كانت سبيل الثورة التكنولوجية الأولى لزيادة الإنتاج بعد أن شكلت الثورة الجديدة امتدادا لعقله. وليس أدل على ذلك من ظهور الحاسبات الالكترونية، ومنظومات أتمتة وسائل الإنتاج، وأشعة الليزر، والالياف البصرية ( الضوئية ) التي أحدثت ثورة في عالم الاتصالات والمعلومات، وغيرها من التقنيات الحديثة التي يصعب ذكرها وإحصاءها. وختاما إذا كانت الثورة التكنولوجية المعاصرة تمثل كل هذا البعد الحضاري والثقافي والإنساني، فأين موقعنا منها كعراقيين بعد ما يربو على الثمانية عقود من الزمان؟.

 

في أمان الله.