وصلتني نكتة طازجة تقول “عثر عراقي على فانوس علاه الصدأ، ولم يكن يعلم انه مصباح علاء الدين السحري، وأراد جليه وتنظيفه مما علق به واستخدامه في ظل أزمة شح الكهرباء، فخرج له المارد قائلا: “شبيك لبيك عبدك بين يديك”، تذكر الرجل ابنه المهاجر إلى كندا هربا من الذبح الطائفي، وطلب إقامة جسر معلق من العراق إلى كندا ليزوره، تأفف المارد وقال: هذا صعب ويأخذ وقتا اطلب شيئا معقولا، فأجابه العراقي، أريد لأوضاع العراق أن تتحسن بعد توقيع ميثاق الشرف الجديد بتحريم الدم العراقي ليرجع ابني إلى وطنه، فغضب المارد وسأل الرجل بانزعاج: تريد الجسر ذهابا وإيابا أم ذهابا فقط؟”. في ظل المعاناة الحياتية القاسية تعد النكتة إحدى منافذ التعبير النقدي التهكمي الساخر عن الواقع المعاش، وأقصر الطرق لتجسيد المكابدة التي يحياها الإنسان في محيطه، وخلاصة رؤيته الواقعية لمشكلاته، ففي النكتة تتلاقح التجربة مع منطق الحكمة فيخرج من مفارقاتها مشهد الكوميديا السوداء بمغزاها العميق، “المضحك المبكي” في الداء والدواء، تسمرت أمام هذه النكتة طويلا، أتلمس فيها أوجاع وطني، وأحزان أهلي مبتسما لسخرية القدر!. سألت نفسي، لماذا بناء جسر معلق في السماء من العراق إلى كندا أسهل من إصلاح الشأن العراقي ومن الالتزام بميثاق الشرف الذي وقعته النخبة الحاكمة؟ لأن هذه النخب هي من دنس وسيدنس الدم والشرف العراقي بما احتضنت من المليشيات التي تغتال وتقتل وتفجر وتعتقل وتختطف وتساوم، ولأن الشخصيات التي وقعت الوثيقة تنضوي تحت مظلات خارجية يختلف لونها وتصميمها، وتتلقى منها التوجيهات والدعم، ففقد القرار العراقي استقلاليته، وفقد العراق سيادته، وفسدت حياة الرعية!. لقد وقع هؤلاء أكثر من وثيقة شرف بمؤتمرات وطنية وتحالفات وتفاهمات للمصالحة، برعاية دولية، في مكة المكرمة، والجامعة العربية، وفي تركيا، وفي بغداد واربيل والنجف ونقضوها، ولم يستجب أحد لدعوتهم فهم غير صادقين، وأول من ينكص ولا يفي بتعهداته، وهل وفت النخبة الحاكمة ببنود مؤتمر أربيل؟ فمن أين تأتي المصداقية لمن وضع على المحك وجرب وبرهنت الأيام أن لا عهد له ولا مصداقية؟. ما وقع هذا الأسبوع ببغداد إعلان مجاني عديم اللون والطعم والرائحة، وغير قابل للتطبيق، وليس وثيقة شرف حاسمة، فالإعلان يخلو من أية خطوات عملية تطبيقية، وبلا خطة طريق، وصدر بلا توافق، ولا فائدة ترجى منه، لقد فشلت مواثيق سابقة فشلا يملي على أصحابها لو كانوا صادقين الجلوس بجانب أمهاتهم في البيوت، وترك العمل السياسي بعد الإخفاقات المتكررة. وما إعلانهم الجديد إلا ورقة اختبار تمتحن فيها مصداقيتهم مرة أخرى، وقد ولد ميتا، وانتهكت حرمته وسقط كما سقطت المواثيق السابقة قبل أن يجف مدادها. في العراق لم تعد توجد مرجعية دينية لا شيعية ولا سنية، يسمع لها وتطاع حتى فجرت المساجد والحسينيات والكنائس، واستبدلت المرجعية الوطنية والقومية بالطائفية والعنصرية، وغابت المرجعية السياسية شعبيا ودستوريا بتفريق الحكومة للتظاهرات بالقوة المفرطة وتسييس القضاء وانتهاك حقوق الإنسان، ولم تعد للعراقيين في ظل المحاصصة ثوابت يتفقون عليها ويتمسكون بها، ولا قواسم مشتركة تجمعهم، وتحطمت على صخرة تمسك رئيس الحكومة بكرسيه بالفهلوة، ورفض الترجل عنه مهما كلف الأمر، وقد أفسد ذمم من حوله واشتراها وهو مستعد للتضحية بكل شيء في سبيله. كيف يوفق رئيس حكومة بين مكونات شعب ضربت الفوضى بسببه أطنابها فيه، وتنازعت سلطات الدولة فيما بينها، رئاسة الجمهورية منذ أشهر لا يعرف الشعب عن شاغلها حيا أم ميتا، نائبه محكوم بالإعدام وهارب، والحكومة مفككة تخلو من وزراء الدفاع والداخلية والأمن والمالية ومقاعد أخرى منذ أربع سنوات، ورئيس الحكومة على خلاف مع رئاسة البرلمان وليس بين أركان الحكم تناغم ولا ادنى انسجام. وكيف يأتي التوافق على الميثاق، إذا كانت القائمة العراقية اكبر كتلة برلمانية غائبة؟ ورفضت المشاركة في الحوار، وأكبر كتلة شيعية الكتلة الصدرية المتحالفة مع قائمة رئيس الحكومة انسحبت ولم تسهم بالميثاق هي الأخرى، وأكبر كتلة عرقية القائمة الكردية لم يحضر زعماؤها، ولرئيس البرلمان تحفظات واعتراضات، حتى نائب رئيس الحكومة يرفض توقيع الميثاق وإقراره، فأية وثيقة شرف كهذه يمكن أن تصمد وتطاع وسط العواصف العاتية؟. لقد اعتاد رئيس الحكومة افتعال الأزمات “فرق تسد”، فيقصي طائفة، ويهمش أخرى، ويجتث فئة، ويستعين بمكون على آخر، ومن فلسفته اختلاق المعضلة من لا شيء، فيولد من المشكلة إشكالية غير قابلة للحل، وإبقاء كل القضايا معلقة بلا حلول تؤجل وترحل، ومن الطبيعي أن يبقى البلد يعيش في دوامة القلق والخوف من المستقبل. في حالة تناحر دفاعا عن الذات، في ظل تخوين هذا، واتهام ذاك وتجريمه، ومتى زاغ الراعي زاغت الرعية.
|