قد لا تُشغل قضيةٌ مهمة مثل القتل في العراق الكثيرَ منا، بعد أن صار الموت وجبة مجانية توزعها أو تحجبها المجاميع المسلحة بحسب رغبتها، أو تتغاضى الحكومة عنها لسبب من الأسباب لكن قضية القتل على الطائفة، أو الهوية الدينية، بحسابات هذا سني وهذا شيعي هي التي تشغل وتحطم نفس صاحبها، صاحبها الذي لم ير نفسه يوما ضمن حشد معرّف على أساس كهذا، أنا شخصيا لا أعرف نفسي إن كنت سنياً أو شيعياً، لأني أرى في التجزيء هذا تقزيماً ودونيةً لي، منقصةً لحدودي في الوجود التي اجدها اكبر من أن تحصر في قائمة ما، أنا إنسان كامل العراقية، عابر للهوية التي صحوت ذات يوم فوجدت نفسي فيها. كثيرا ما نتحدث في مجالسنا عن الاسباب التي تستدعي المجاميع المسلحة (قاعدة ومليشيات) للقتل، ذلك لأننا نعثر بين القتلى على شخوص لا نجد أسبابا مقنعة لقتلهم ،فهم عراقيون معتدلون، لم يسجّل التاريخ عليهم لوثة في سلوك او احتراب او مفسدة، فنسأل :تُرى لماذا قتلوا فلاناً، أنا شخصياً، أيضا لا أجد أجوبة ، حتى بدوت مشككا في قناعاتي، غير ان التحليل الذي سمعته من أحدهم دلني على ما هو مفزع حقاً، التحليل يقول بأن جماعات ما تنفذ أوامر لها تقضي بقتل عدد ما من الشيعة مثلاً، وجماعات أخرى تنفذ أوامر لها تقضي بقتل عدد ما من السنة، وبذلك يصبح الفرد رقماً في هوية، لذا لن يكون بحاجة لمراجعة تاريخه وسلوكه اليومي، لأنه لم يعد كيانا إنسانياً قائماً على أساس النفع والمشاركة في الحياة ، هو رقم في معادلة البقاء والفناء . كنتُ كتبتُ في ما كتبتُ من وصيتي لزوجتي وأولادي أن لا يُخط في يافطة التعزية بعد موتي عبارة مثل تنعى العشيرة الفلانية فقيدها فلان ابن فلان الفلاني لأنني والحمد لله بلا عشيرة، ولا مفاخرة لي على أحد، وأسعدني أن اسمي لا يشي بطائفة ما، هكذا اجدني مطمئناً لميتتي التقليدية، لكن الذي يفزعني ويفزع معي الكثير من العراقيين، ممن لا يجدون أنفسهم في طائفة ما، من الذين ينتظرون مقاتلهم على أيدي الجماعات هذه، هو أن تنقل وسائل الاعلام خبر قتلهم على أنهم قتلوا لأنهم من الطائفة هذه أو تلك، بل ولا يسلم من ذلك حتى المقتولون بالتفجيرات اليومية، قضية قد تبدو بسيطة لمن يعتقد بان الانسان ساعة موته سيكون خارج دائرة التكهن والناس ستنشغل به جثة لا كياناً وتاريخاً، غير أن قضية مثل هذه تصبح أكثر إيلاما من حادثة القتل نفسها، ترى ألا نجد في قولنا بان عبد الكريم قاسم مات سنياً أو ان الجواهري مات شيعياً تقزيما لهما؟ أليس في ذلك طمراً لتأريخ الرجلين. وهكذا الحال بالنسبة للعشرات من العراقيين الذين فقدناهم في مشاريع وطنية كبيرة. قبل أن يأتي أحد ليجعلهم في مرتبة أدنى. انهم يُجهزون على تأريخ أرواحنا حتى في الموت. لا يملك الكثير من العراقيين الشرفاء والوطنيين سوى مواقفهم وتواريخهم في الحياة والمسؤولية والسعي للتغيير، في زمن انقسم فيه المجتمع الى طائفتين، عراقيون ظلوا كباراً حتى في زمن التراجع والانكفاء. قد لا يغير من تاريخ عضو في حزب الدعوة إن قيل عنه انه شيعي مثلما لا يضير مثل ذلك عضواً في الحزب الإسلامي، بل ولا يضير تصور مثل هذا أحداً من خارج الحزبين (الطائفتين)، وهناك من يجد متعة في انتسابه للطائفة هذه أو تلك فتراه يباهل وينافج ويمشي في الارض مرحاً، غير ان من يملك تاريخاً شخصياً مشرفاً متجاوزاً للطائفة سيجد أنه قتل مرتين، مرة على يد مسلحين مجهولين ومرة أخرى بحساب طائفي. فيا أهلينا ويا ناسنا: بين المقتولين منّا الكثير والكثير ممن لم يكونوا إلا عراقيين، عراقيين مُخْلَصين لم يدخلوا العراق من بوابة الطائفية القذرة يوما ما.
|