الإبداع يتجاوز اللغة باللغة |
بن نبي يكتب بالعربية: حين يُكتب للمرء أن يقرأ كل كتب المفكر العالمي، مالك بن نبي، رحمة الله عليه، سيقف لامحالة على حقيقة مفادها .. أن بن نبي، ضليع ومتمكّن في اللغة الفرنسية. استطاع بواسطتها أن يعبّر عن أعقد الأفكار وأصعبها، كمشكلة الحضارة، والقابلية للاستدمار، والثقافة، والزمن، والتراب، وشروط النهضة، ووجهة العالم الاسلامي، والظاهرة القرآنية، بأسلوب سهل وبسيط، يفهمه من يتصفّح كتبه. لكن حين يقرأ المتتبع كتابه: " الصراع الفكري في البلاد المستعمرة "، يجد أنه أوّل كتاب كتبه بن نبي باللغة العربية، بعد استرجاع السيادة الوطنية. وحين ينغمس القارىء في الكتاب، لايشعر إطلاقا أن هناك فرقا بين كتبه التي تُرجمت، وهذا الكتاب الذي ألّفه بن نبي باللغة العربية، نظرا للغة البسيطة التي انتهجها الكاتب، رغم أن موضوع الكتاب، عميق وصعب، لأن بن نبي ركّز فيه على الجانب الفكري والنظري للاستدمار، ثم دعّمها بحالات فردية عاشها الكاتب، وظل يصارعها على المستوى الفكري والعملي. وعظمة بن نبي ظلّت على حالها، فقد أبدع في الكتب التي ألّفها باللّغة الفرنسية، وأبدع في الكتب التي ألّفها باللغة العربية، وهو الذي قضى شطر حياته في فرنسا، وظل يقرأ لكبار كتاب أوربا بللغة الفرنسية. الجيلالي اليابس المفرنس يحاضر بالعربية: وفي منتصف الثمانينات، كان أستاذي عالم الاجتماع، الجيلالي اليابس، رحمة الله عليه، يلقي محاضراته بلغة فرنسية، عالية رفيعة مُحكمة، اتّسمت بالدقة، وحسن الأداء، تنم عن إطّلاع واسع لصاحبها، وتَحَكُّمٍ مطلق في آلياتها وأدائها. لكنه مالبث أن شرع في إلقاء محاضراته في علم الاجتماع بلغة عربية، فصيحة بليغة، ظهرت عليه في البداية، علامات الجهد والمشقة، ثم مالبث أن تفرّد في ابتكار مصطلحات خاصة به، وتفوّق على زملاءه الأساتذة في الكتابة باللغة العربية، والنطق بها، فضلا عن المستوى الفكري العالي الذي مكّنه من تحليل قضايا اجتماعية شائكة، مسّت يومها المجتمع الجزائري والعربي والغربي، كالبطالة والحرية والانتاج واللغة. وأستاذي عالم الاجتماع، الجيلالي اليابس، إن تحدّث باللغة الفرنسية أبدع، وإن تحدّث باللغة العربية أدهش. أساتذة الفرنسية يكتبون بالعربية: هناك زميل، يُدرّس اللغة الفرنسية بالثانوية منذ1991، نشرت له إحدى الأسبوعيات الجزائرية مقالات باللغة العربية، معتقدة أنه أستاذ في مادة اللغة العربية، لما أوتي من فصاحة لسان، وحسن بيان، ونظرا لتفوّقه في الإعراب والصرف والنحو على جميع أساتذة اللغة العربية، ومازال يقول دوما .. اللغة الفرنسية بالنسبة لي، وسيلة كسب وعيش، أما اللغة العربية فهي الروح والأصل والحياة. ويبقى الزميل، الذي يرفض ذكر اسمه، متقنا للغة الفرنسية، وبارعا في اللغة العربية. وهناك زميل آخر، أستاذ بجامعة حسيبة بن بوعلي، نال الدكتوراه في اللغة الفرنسية منذ أشهر، يتقن اللغة العربية، وما يتعلّق بها من نحو وصرف، أحسن من أيّ أستاذ في مادة اللغة العربية. ومنذ 05 سنوات ، قال لي أستاذ برتبة بروفسور في العلوم الدقيقة .. حين يصل الأمر، لواحد مثلي، وأنا الضعيف في اللغة العربية، لأصحّح دراسات علمية دقيقة باللغة العربية، فعلى أهل العربية السلام. خلاصة، الإبداع يتجاوز اللغة باللغة. والذين نالوا جوائز نوبل في الآداب، أبدعوا في لغة الأم، وعبّروا بواسطتها عن آلام وآمال شعوبهم وأممهم، وكانوا في نفس الوقت يتقنون لغات أخر. |