وقفةُ عزٍّ من 1922: سُنة العراق مع شيعته ضد الإجرام التكفيري الوهابي!

 

إنّ الظرف الاجتماعي والسياسي العصيب الذي يحياه العراق وشعبه يجعل المواطن العراقي، وخصوصا من جيل الشباب، الذي ولد وترعرع في أجواء ومناخات الحروب والحصار وحملات القتل والإبادة الجماعية التي نافت على النصف قرن، أحوج ما يكون إلى تدبر عبر ودروس تاريخ هذه البلاد الصعبة ذات الخصائص والخصوصيات الاستثنائية واستعادة الدروس الغنية والمفيدة  المنتمية إلى خندق الحياة والسلام والمناوئة للموت والحروب والعنف وآخر نسخه البشعة ممثلة بالإجرام التكفيري والقتل الأعمى، وخصوصا تلك الدروس والمناسبات والأحداث غير الذائعة الصيت والنادرة أو المهملة عن قصد أو عن دونه. لقد حاول المجرمون التكفيريون في تنظيم القاعدة وحلفائه وفي المليشيات الطائفية الحليفة لإيران عشرات وربما مئات المرات إغراق العراق بالدماء في محاولة منهم للزج بالعراقيين في مذبحة طائفية وحزبية يقتل فيها العراقي مواطنه العراقي على خلفية هويته المجتمعية الفرعية "الطائفية أو القومية" غير أن الغالبية العظمى من شعب العراق أثبتت - حتى الآن - أنها أكبر من كلّ المؤامرات السوداء والمخططات المشؤومة وأكثر نضجا حتى من بعض القيادات التي قفزت في غفلة من الدهر والناس إلى المناصب العليا في الدولة، ولهذا حافظ المواطن عموما وفي الغالب الأعم على رباطة الجأش والتماسك وعدم الاندفاع في ردود أفعال مرتجلة ودموية وذات نزعة انتقامية وثأرية عمياء.

وبهدف قطع الطريق على غربان الشؤم، دعاة الطائفية البغيضة، الذين حاولوا ويحاولون اللعب على وتر العلاقات والخلافات العقائدية والفقهية الطائفية بين العراقيين من سنة وشيعة، سنتوقف في هذه المقالة عند وقفة عزّ وتضامن عراقية قام بها العراقيون من الطائفة السُنية ضد القوات السعودية وخصوصا المقاتلين في مليشيات "حركة أخوان التوحيد" الوهابية، تضامنا مع مواطنيهم من المسلمين الشيعة الذين كانوا يتعرضون إلى المذابح على أيدي عناصر ومقاتلي تلك الحركة في عدد من مدن الجنوب والفرات الأوسط.

ومعروف أن حركة "أخوان التوحيد" التي قامت على أسس الأفكار المتطرفة والتكفيرية للشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي، حليف أمير الدرعية ومؤسس الدولة السعودية الأولى محمد بن سعود في سنة 1744،  والتي دعمت مؤسس الدولة السعودية الثالثة عبد العزيز بن سعود** بل كانت هي سيفه الضارب في حروبه الداخلية والخارجية حتى إسقاطه حكم الأشراف الهاشميين وتأسيس الدولة السعودية الحالية، معروف أن تلك الحركة ارتكبت عدة مجازر بحق المسلمين الشيعة العراقيين لأنها كانت تعتبرهم من المشركين. ولعل أقدم تلك المجازر التي سجلها المؤرخون هي مجزرة "عيد الغدير" سنة 1216 هـ / نيسان 1802 ففي هذا الشهر الذي ينشغل فيه العراقيون في الجنوب والفرات بحصاد الحبوب، وفي مثل هذا اليوم وهو من الأعياد الدينية للمسلمين الشيعة (دخل الوهابيون مدينة كربلاء وهم شاهرون سيوفهم يذبحون كل من يلقونه في طريقهم ولم يستثنوا منهم الشيوخ والنساء والأطفال.. واختلف المؤرخون في عدد القتلى فقدره بعضهم بثمانية آلاف.. ص 190 ج1 / لمحات اجتماعية / علي الوردي) وبعد مجزرة كربلاء شنَّ الوهابيون هجوماً مشابهاً على مدينة النجف، ولكن سكان النجف، وكانوا في أغلبيتهم الساحقة ينتمون إلى قبائل وعشائر عربية، بخلاف كربلاء التي يكثر فيها تواجد الأعاجم من فرس وآذريين وغيرهم، تصدوا للمهاجمين الوهابيين فصدوهم وطردوهم شر طرد بعد أن ألحقوا بهم خسائر معتبرة. ( وبعد انسحاب الوهابيين بادر النجفيون إلى نقل خزانة المرقد الحيدري الثمينة إلى الكاظمية مخافة أن يعود الوهابيون فينهبوها كما نهبوا خزانة المرقد الحسيني في كربلاء / ص19 اللمحات م س) كما قام الوهابيون، أسلاف ابن لادن المباشرون، بمجزرة أخرى في كربلاء بعد بضعة أعوام وقتلوا أكثر من مائة وخمسين شخصا كما يسجل الشيخ جواد العاملي اللبناني الذي يبدو أنه كان قد شهدها في كتابه "منهج الكرامة".

أما المجزرة الأحدث ضد المدنيين العراقيين العزل، والتي ارتكبتها القوات السعودية ومليشياتها الضاربة في حركة "إخوان التوحيد"، والتي هزت المجتمع العراقي هزاً عنيفا، فقد وقعت في لواء المنتفك بتاريخ 11 من آذار / مارس 1922. ففي هذا اليوم، وفي عملية غدر يغلب عليها طابع الثأر لهزيمة التحالف السعودي الكويتي في الشهر ذاته من سنة 1910 في معركة "جريبيعات"، والتي كاد العراقيون أن يبيدوا فيها القوات المهزومة المستسلمة لولا أن فروسية وشهامة جيش المنتفك آنذاك تغلبتا على الغضب ومشاعر الثأر والحقد على الغزاة المعتدين فأطلقوهم من الأسر بعد أن جردوهم من أسلحتهم وعدتهم؛ في مثل هذا اليوم تسللت قوات سعودية مسلحة جيدا بالسيوف والبنادق والمسدسات إلى داخل مراعي لواء المنتفك، وعلى مسافة ثلاثين كيلومترا جنوبي موقع مدينة الناصرية اليوم، وربما كان الهدف الرئيس هو مركز لواء المنتفك السابق، أي مدينة سوق الشيوخ. وقد حاصر الوهابيون مجاميع الرعاة والسكان العزل في مناطق محددة - ويحتمل أنهم اخترقوا المدينة نفسها - فقتلوهم مع أطفالهم ونسائهم ونهبوا قطعان حيواناتهم في غياب تام للقوات المنتفكية العشائرية التي لم يتم استدعاؤها لسببين مهمين:

الأول أن العراقيين عموما والجنوبيين في إقليم المنتفك خصوصا يكونون منشغلين بموسم حصاد الحبوب في هذا الشهر والذي يسمونه "شهر الحصاد"، والذي يمتد عادة إلى شهر نيسان الذي يصل الحصاد فيه إلى الذروة ومن هذا الشهر اشتق العراقيون فعل "يَتَنَيسن" أي ينشغل بموسم الحصاد، وقد أشرنا إلى هذا الانشغال في موضوع معركة جريبيعات وهو أمر يعرفه المغيرون السعوديون ويضعونه في حسبانهم دائما.

والثاني هو عدم وجود حالة إنذار أو إعلان حالة حرب كما جرت التقاليد الحربية آنذاك والتي لم يكن يتقيد بها قطاع الطرق والنهابون فقط وهم محط ازدراء عام.

 بلغ عدد القتلى من الرعاة وسكان القرى ومن مدينة سوق الشيوخ في هذه الغارة المجزرة، وفق المصادر العراقية، سبعمائة قتيل، ولم يرد أي ذكر لوجود جرحى، ما يعني أنّ المغيرين قرروا سلفاً القيام بمقتلة فظيعة لا يتركون خلفهم جريحاً بعدها، وهنا يمكن أن نضع أيدينا على جذور وبدايات القسوة المفرطة والبشاعة البالغة التي يتصف بها عناصر المنظمات التكفيرية في عصرنا كتنظيم القاعدة وحلفائه في تفجيراتهم الانتحارية وغير الانتحارية وقتلهم للعزل الأبرياء من جميع طوائف المجتمع بخسة ودناءة تأبها حتى البهائم فهم لا يختلفون كثيرا عن أسلافهم "إخوان التوحيد" الوهابيين.
نسجل، أنّ هناك إشارات في بيان لرجال الدين السنة والذي سنتوقف عنده بعد قليل، إلى وقوع حالات سبي للنساء والذراري. أما القطعان المنهوبة من الخيل والجمال وغيرها ففاقت العشرة آلاف رأس، وأحرقت مئات الدور والأكواخ وبيوت الشعر العائدة للقرويين والرعاة كما يخبرنا عبد الرزاق الحسني في "تاريخ الوزارات العراقية ج1/ ص59 "!
معلوم أن الملك السعودي عبد العزيز بن سعود غدر لاحقا بقوات "الإخوان" الوهابية بقيادة فيصل الدويش بعد أن شبت عن الطوق وتمردت عليه وكفَّرته هو الآخر حين بدأ بالسماح للبريطانيين بإدخال بعض المخترعات الحديثة كالسيارات والإذاعات وما إلى ذلك. وكان تكفير الوهابيين لملكهم وتمردهم المسلح عليه يعني أن من يطلق جني التكفير الديني من قمقمه سيدفع الثمن بدوره وستطوله  النار التي أشعلها فتحرقه، وبعد قرن تقريبا ستطلق الولايات المتحدة جني العنف الديني والتكفيري في أفغانستان وستحترق بنيرانه أصابعها في هجمات 11 سبتمبر 2001. ولكن الداهية بن سعود استشعر الخطر التكفيري فلم يستهن به لذلك بادر إلى تنظيم كمين محكم لقوات الإخوان في معركة السبلة يوم 30 آذار/ مارس 1929 وحصد غالبيتهم بالرشاشات، ثم قضى على من بقي حياً منهم في معركة أخرى هي "أم رضمة" بعد ستة أشهر.
نعود إلى مجزرة مراعي المنتفك، وما أثارته من تداعيات وردود أفعال،  مسجلين هنا أن بعض الكتبة وساسة وأفندية المقاهي من أصدقاء بريطانيا في بغداد ومدن عراقية أخرى سارعوا إلى تشبيه الحركة الوهابية السعودية بالحركة البلشفية "الشيوعية" في روسيا، وأطلقوا على عبد العزيز بن سعود لقب "لينين نجد" للإيحاء بدموية الطرفين، ومن ألاعيب وخوارق التاريخ العراقي العجيبة أنّ إقليم المنتفك ذاته، وبعد عقد من السنوات تقريبا على المجزرة، وبتاريخ 31 آذار / مارس 1934 سيشهد تأسيس أول حركة بلشفية عراقية ممثلة بالحزب الشيوعي العراقي، وسيعدم النظام الملكي الهاشمي قادته المؤسسين الثلاثة (يوسف سلمان فهد من أسرة مسيحية، وزكي بسيم من أسرة مسلمة سنية، وحسين محمد الشبيبي من أسرة مسلمة شيعية) بناء على أوامر بريطانية مباشرة.
في سنة 1922، وردا على مجزرة مراعي سوق الشيوخ، بدأت التحضيرات لعقد مؤتمر كربلاء الذي دعت إليه المرجعية الدينية في مدينة النجف، ودعمته القبائل والعشائر العراقية بقيادة عبد الواحد الحاج سكر وعلوان الياسري  وكاطع العوادي وهم من أبطال ثورة العشرين (بهدف الدفاع عن العراق تجاه هجمات الإخوان / ص140 اللمحات) وقد دعي المرجع الديني الكبير في الكاظمية سماحة الشيخ مهدي الخالصي أحد قادة حرب التصدي للغزو البريطاني سنة 1914 إلى المشاركة في ذلك المؤتمر، فبادر الخالصي إلى تشكيل أربع لجان اختصاص لإدارة المؤتمر وسافر شخصياً إلى كربلاء. أما على جهة طائفة المسلمين السُنة العرب العراقيين فقد بادر علماؤها الأجلاء  إلى التحرك والمشاركة الفعلية كما يخبرنا علي الوردي (وجه الشيخ عبد الوهاب النائب الدعوة إلى عدد من علماء السنة البارزين ببغداد لحضور اجتماع في تكية "الخالدية" للتداول في أمر "الأخوان" وهل يجوز حربهم. وفي صباح 5 نيسان 1922 تم عقد الاجتماع وحضره أكثر المدعوين. وافتتح عبد الوهاب النائب الاجتماع، وأخذ يذكر الفظائع التي اقترفها الوهابيون في المسلمين العراقيين ثم تساءل قائلا (ما تقولون في هذه الطائفة المسماة بالإخوان، هل ترون وجوب قتالهم وردعهم عن أمثال هذه التجاوزات نظرا لكونهم هتكوا حرمات المسلمين واستباحوا دماءهم وأموالهم بغير ذنب؟.. ثم قرأ أحد الحاضرين فقرة من كتاب مفادها أن من يستبيح دماء المسلمين كافر تجب مقاتلته فوافق الحاضرون على ذلك وأجمعوا رأيهم على وجوب الدفاع العام، ثم نهض أحمد الشيخ داود فتكلم بما يؤيد ذلك وحصلت محاورة فقهية بين النائب وداود إذ سأل النائب (ماذا نسمي هؤلاء أ بغاة أم خوارج؟) فقال الشيخ أحمد (إنهم الخوارج بعينهم).. وعند ذلك قال النائب (إن إخواننا الشيعة الجعفرية قد صمموا على الاجتماع وإعطاء القرار بهذا الخصوص، ولما لم يكن بيننا وبينهم خلاف في أي شيء فكلمتنا واحدة)، فقال الحاضرون (لا شك في ذلك). واستقر رأي الحاضرين على انتخاب وفد منهم لحضور مؤتمر كربلاء فاختير عبد الوهاب النائب رئيساً للوفد، واختير الشيخ داود وإبراهيم الراوي وعبد الجليل الجميل أعضاء في الوفد. وباشروا بكتابة الفتوى التي توجب على المسلمين قتال الوهابيين التكفيريين، وهذا نصها:
باشر رجال الدين المسلمين السنة بكتابة الفتوى التي توجب على المسلمين قتال الوهابيين التكفيريين وتصفهم بالخوارج، وهذا نصها (ما قول علماء المسلمين الأعلام فيمن يدعي الإسلام ويحكم بشرك من خالف معتقدهم من جماعات المسلمين مستحلين قتالهم ودماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم بغير سبب وقد هجموا على بلاد المسلمين عداءً وبداءً فهل يجب قتالهم ودفاعهم أم لا؟ أفتونا مأجورين! الجواب والله سبحانه وتعالى أعلم: نعم يجب قتالهم والحالة هذه) وقد وقع على هذه الفتوى عبد الوهاب النائب وعبد الملك الشواف وإبراهيم الراوي ونعمان الأعظمي وعلي القرداغي وأمجد الزهاوي ومحمد رشيد الشيخ داود وخليل حسن النقي وبهاء الدين النقشبندي واحمد الراوي ومحمد رؤوف. ص145. لمحات / الوردي) وسافر الوفد يوم العاشر من نيسان / آيار إلى كربلاء وبعد أن اجتمع بسماحة الإمام الخالصي في دار الشيرازي توجه إلى دار قاسم الرشدي فنزلوا عليه ضيوفا. وفي مساء اليوم نفسه وصل إلى كربلاء وفد من الموصل مؤلف من مولود مخلص وسعيد الحاج ثابت وأيوب عبد الواحد وعبد الله النعمة وثابت عبد النور وعبد الله آل رئيس العلماء، وعجيل الياور رئيس قبيلة شمر وبطل معركة السيارات المدرعة في تلعفر في ثورة العشرين الكبرى، كما وصل الشيخ محمد أغا شيخ عشيرة "الكركرية" وتلفظ أحيانا بالجيم "الجرجرية" وهي عشيرة كردية كريمة أنجبت محاربين شجعان يُضرب المثل ببسالتهم وفروسيتهم، أبت هذه العشيرة الكردية إلا أن تمثل أكراد العراق في هذه الصفحة الخالدة من سِفر الأمجاد الوطنية، علما بأن مساهمة الأكراد من العشائر والقبائل الكريمة الأخرى في ثورات وانتفاضات العراق، وخصوصا في حرب التصدي للغزو البريطاني ومعركة الشعيبة في البصرة بتاريخ 12 نيسان 1915 ودامت ليومين داميين، كانت مساهمة مهمة وكبيرة وسنفرد لها بحثا خاصا قريبا. ونزلت الوفود في دار عمر العلوان، وخلال ذلك وصلت إلى الخالصي برقية من أهل تكريت وشرقاط يذكرون فيها إنهم انتدبوا مولود مخلص ليمثلهم في المؤتمر وإنهم مستعدون لتنفيذ أي قرار يصدر منه بأموالهم وأنفسهم. أما الملك فيصل الأول فقد اعتذر عن حضور المؤتمر تحت ضغط من الحاكم البريطاني الفعلي للعراق السير برسي كوكس وسيناصب هذا الأخير مؤتمر كربلاء والقائمين عليه العداء ويحاول إفشاله بشتى الطرق غير أن الوطنين العراقيين انتصروا عليه وأصدروا مضبطة وطنية ما اضطر كوكس لتحريك أصدقاء بريطانيا من شيوخ ووجهاء فانشقوا وأصدروا مضبطة رجعية تقوم على مبادئ الدفاع عن الانتداب البريطاني على العراق. هذا ما سنتوقف عند تفاصيله في الجزء القادم من هذه المقالة!

 

**هامش: من الضروري التمييز بين الملك السعودي عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود الذي نقصده في دراستنا هذه، وبين سلفه الملك عبد العزيز بن محمد بن سعود والذي قتله فدائي عراقي مغامر تنكر بدور درويش اسمه عثمان. بعض المصادر السعودية تقول إنه من مدينة العمارة، وأخرى تنسبه إلى مدينة النجف، وحدث ذلك في سنة 1803 طعنا بخنجر في عاصمته الدرعية ووسط حراسه، وأصاب ولي عهده بجرح بالغ قبل أن يقتله الحرس. وتذكر المصادر أن عملية الاغتيال هذه جاءت ردا على غارات قام بها السعوديون هدموا خلالها أضرحة أئمة الشيعة في النجف وكربلاء..