يمثل الشيعة وجودا سياسيا واجتماعيا وثقافيا وتاريخيا أصيلا في العالم الإسلامي، وتختلف نسبتهم قياسا إلى بقية المكونات الاجتماعية بين دولة وأخرى، فهم يشكلون غالبية السكان في إيران والعراق والبحرين، بينما لهم وجود مؤثر في اليمن ولبنان وسوريا والعربية السعودية والكويت، كما إن نسبتهم لا يستهان بها في مصر وبقية دول الخليج وأفغانستان وباكستان وتركيا وجمهوريات أسيا الوسطى، فضلا عن وجودهم المتناثر هنا وهناك في مختلف دول العالم الإسلامية والدول الأخرى التي يقطن فيها المسلمون، وليس لهم لون ثقافي وعقائدي واحد، لأن مذهب الشيعة يتفرع إلى تيارات عقائدية عد كالزيدية والإسماعيلية والافطحية والكيسانية والوقفية والعلوية والمستعلية (البهرة).. لكن أهم هذه التيارات وأكثرها عددا وتأثيرا هم الشيعة الأمامية الإثنى عشرية.
وقد عانى الشيعة كمكون مذهبي مهم تشكل مع البدايات الأولى لانبثاق الدولة الإسلامية من مضايقات كثيرة انتهت في بعض الأحيان إلى حد تهديد وجودهم السياسي والاجتماعي، فرسخ هذا الحال لدى أتباع هذا المذهب عقدة المظلومية والشعور بالغبن من النظام الحاكم، الذي كان في الغالب ينتمي إلى لون مذهبي معين، بل إن هذا الشعور بالمظلومية غذته حوادث تاريخية مهمة، غالبا ما كانت المأساة الحمراء لونها المميز لها، حتى وصل الحال في بعض الأوقات بالمسلم الشيعي أن يقول انه ذمي أهون عليه من أن يقول انه شيعي لدرء القتل عنه.
هذا الشعور بالمظلومية الشيعية غذى وبقوة الكثير من الحركات الشيعية على مر التاريخ وصولا إلى زمننا الحاضر، تلك الحركات التي قامت من اجل تغيير معادلة الحكم الظالم، والتأكيد على حق الشيعة في الاعتراف لهم بوجودهم السياسي الفاعل والمشارك في الحكم، فنجحت بعض هذه الحركات في تحقيق أهدافها وأمسكت زمام الأمور في بلدان معينة، بينما أصاب البعض الآخر الفشل والإحباط لأسباب عدة، وقد اصطلح على تسمية هذه الحركات الشيعية وأمثالها، والنظريات السياسية المقترنة بها التشيع السياسي أي تحويل القضية المذهبية إلى قضية أساس في الفكر والعمل السياسي عند بناء الدولة أو المشاركة في الحكم فيها.
ولا نريد في هذا المقال الحديث مطولا عن التشيع السياسي، فهذه الظاهرة السياسية لها ايجابياتها وسلبياتها شأنها كشأن ظواهر سياسية أخرى كثيرة كظاهرة التسنن السياسي، والاسلمة السياسية، والعولمة وغيرها، لكن التركيز سيكون على ظاهرة جديدة تفرض ملامحها بقوة على المشهد السياسي في الوقت الحاضر، ويمكن أن تترك تداعيات سلبية خطيرة على السلم والأمن الوطني والإقليمي والدولي ألا وهي ظاهرة تسييس الشيعة من قبل بعض القوى السياسية أو الدول الإقليمية والدولية، والمقصود بتسييس الشيعة هو إخراج الشيعة من وجودهم المذهبي الأصيل في بنية المجتمعات التي يتواجدون فيها ويتعايشون معها، إلى ساحة المزايدات الحزبية والفئوية للمتاجرة السياسية بهم بحجة دعمهم وتمثيلهم ورفع المظلومية عنهم مرة أو بحجة الخوف منهم والدعوة إلى تجنبهم واتخاذ المواقف العدائية ضدهم مرة أخرى.
وهذا السلوك السياسي سيلحق ضررا بالشيعة من جانبين: الأول من قبل المنادين بدعمهم وتمثيلهم والحديث باسمهم، وهؤلاء في الغالب قد لا يمثلون روح الشيعة الخيرة ومنهجهم الصالح المرتكز إلى سنة الرسول وأهل بيته الأطهار عليهـــــــم السلام، لاسيما لدى أتباع المذهب الاثنى عشري، بل يمثلــــــــون مصالحهـــــــم الضيقــة (الفردية أو الفئوية أو الحزبية)، فيناقض قولهم فعلهم، وسلوكهم عملهم، ويتاجرون بأبناء المذهب بصورة مخزية تلحق الأذى بهم، من خلال تجارب في السياسة والإدارة فاسدة وفاشلة، بل أحيانا قد يدفع فشل هؤلاء في تأسيس حكم صالح على ارض الواقع، ورغبتهم المتأصلة في السلطة والنفوذ إلى مزيد من التسييس للشيعة لتحقيق أغراضهم السياسية، من خلال استغلال كل الظروف والأحداث التاريخية المؤلمة، لاصطناع المواقف المؤثرة والمهيجة للكراهية والعداء بين الناس في مذهب عقائدي سمته الأساس العدل والاعتدال والمحبة والنزاهة والكفاءة فينعكس ذلك سلبا على الشيعة كمذهب وأتباع.
أما الجانب الثاني فيكون من خلال محاولة قوى سياسية ودول لا تنتمي إلى المذهب الشيعي إثارة أبناء المكونات غير الشيعية من خلال مواقف عدائية تتخذها ضد أبناء هذا المذهب، بحجة الخوف منهم وإقصائهم تحت مسميات قروسطية بالية كالرافضة والصفويين وغيرها، ليصل الأمر ببعضهم إلى حد التكفير الجماعي للشيعة كما تفعل الجماعات التكفيرية المرتبطة بالوهابية والقاعدة في الوقت الحاضر، مما يخلق حالة هستيرية يتأسس عليها حالة من فوبيا الشيعة لدى المكونات الأخرى تحرك مشاعر الحقد والكراهية بين المكونات الاجتماعية لشعوب تعايشت مع بعضها منذ زمن بعيد، وليس من مصلحة أحد تفتيتها وتحاربها وتصارعها، باستثناء القوى والحكومات التي تتخذ هذه المواقف السيئة من اجل إثبات وجودها، وترسيخ دعائم حكمها، وخداع شعوبها بخلق أعداء وهميين لها، لإلهائها عن أعدائها الحقيقيين، ومنتهكي كرامتها، وناهبي ثرواتها.
وبحجة الدعم للشيعة أو الخوف منهم تأتي مواقف بعض القوى الكبرى في العالم، لتتدخل في مصلحة هذا الطرف أو ذاك، فتغذي النزاع والصراع النخبوي السياسي والاجتماعي، مما يخلق مزيدا من التسييس للشيعة يخرجهم من بنيتهم المذهبية – العقائدية الطبيعية ليزجهم في قلب الصراعات السياسية الوطنية والإقليمية والدولية.
إن ظاهرة تسييس الشيعة لا تصب في مصلحتهم كوجود سياسي واجتماعي وثقافي بناء وفاعل، كما لا تصب في مصلحة السلم والأمن الوطني والإقليمي والدولي، إذ من شأنها تعميق الشعور بالمظلومية التاريخية لمكون اجتماعي – سياسي – وعقائدي مهم في العالم الإسلامي، مما قد يدفع أبنائه إلى العزلة السياسية، ويضعف ترابطهم مع بقية المكونات الاجتماعية من جهة، ومن جهة أخرى فان الأطراف التي تحاول تعميق حالة فوبيا الشيعة تدفع مكوناتها وأنظمتها الحاكمة إلى مزيد من العنف والتطرف اتجاه الشيعة، مما يشيع مشاعر الكراهية والعنف المتبادل في مجتمعاتهم والمجتمعات الأخرى، لأن الوجود السياسي للشيعة عابر للحدود الوطنية، أي غير مقتصر على دولة بعينها، ويترافق كل ذلك مع التطور الهائل في وسائل الاتصالات والمواصلات جعل العالم قرية كونية، ما يحدث في طرف منها يترك صداه في بقية الأطراف، فالعنف الطائفي المتبادل في دولة ما سرعان ما سينتقل عبر الحدود ليشمل دول أخرى، ولن يقتصر على أماكن التواجد التقليدية لهذه الطوائف، بل سيصل حتى إلى بلدان المهجر، ومن شأن ذلك أن يلحق عنفا وتطرفا يهدد الأمن والسلم الوطني والإقليمي والدولي، وفي ظل هذا العنف والتطرف المتبادل سيكون الخاسر الإنسانية جمعاء، لأنها ستواجه ظروفا تهدد بناء الثقافة والحضارة على سطح الأرض.
ويتطلب عدم الوقوع في هذه الدوامة الخطرة التركيز على حقيقة مهمة هي أن الحماية الحقيقية لحقوق وحريات الشيعة لن يكون بمعزل عن حماية حقوق وحريات الإنسان مهما كان لونه ودينه ومذهبه وانتمائه السياسي في البلدان الإسلامية، وواجب القوى السياسية والدول الإسلامية وغير الإسلامية التركيز على بناء دول مدنية منظمة ومتطورة ومزدهرة يتعايش فيها الشيعي مع غير الشيعي ليكون الجميع بناة فاعلين فيها، ففي ظل هذه الدول المستوعبة لكل مكوناتها يمكن فقط حماية السلم والأمن الوطني والإقليمي والدولي، وأية دعوة مخالفة لهذا التوجه بحجة الدعم المتطرف للشيعة أو غيرهم أو بحجة العداء تكون متهمة ولا يمكن الاطمئنان لدعاتها.
|