فد واحد اسمه بيرجسون!

 

عذرا أيها السادة؛ الأمر لا يحتمل، لهذا سوف أتحدث بالقلم العريض، معربا عن استغرابي من موافقة قناة محترمة كـ"السومرية" على عرض برنامجٍ مثل هذا المخرب للذائقة والمرسخ لكثيرٍ من أمراضنا الإجتماعية؟ أعني برنامج "أكو فد واحد" الذي يعرض أسبوعيا ويزخر بالتهريج والإسفاف، فضلا عن تبنيه أسوأ ما في ثقافتنا الاجتماعية من قيم.

تساءلت وأنا أتابع حلقةٍ من حلقاته بانزعاجٍ شديد، فمن متهكّمٍ من اللهجة البغدادية ساخرا من بائع في سوق الغزل، إلى ذلك الضاحك من "العانسات"، الطاعن لمشاعرهن في الصميم، وبينهما ثمة من "يحشش" في الأستديو على المعاقين من ذوي الأطراف الصناعية. والعجيب أن كثيرا من الطرائف المستحضرة ليست خيالية بل واقعية ومستقاة من يومياتٍ يمرّ بها الضيوف.

ليس هذا حسب، ففي البرنامج المذكور قد يصل التهريج ذروته في بعض اللحظات غير المفلترة، فيعرض الضيوف ما في جعبتهم من نكات وكأنهم جالسون في مقهى. لا بل حتّى رواد المقاهي المحترمة قد يربأون بأنفسهم عن مثل الخطاب المتدني الذي نسمعه، ومن ذلك الملاحظة التي طرحها أحدهم عمن يتأخر زواجهن إلى ما بعد الأربعين. لقد قال، معتقدا أن ملاحظته تبعث على البهجة، إن المرأة قبل العشرين "تتعيقل" وتتخير من المتقدمين لخطبتها، ثم حين يتقدم بها العمر فتعبر الثلاثين، تبدأ في تقليب ألبوم صور الأقرباء بحثا عن عريس، وما إن تعبر صاحبتنا الأربعين حتى تشرع في زيارة موسى بن جعفر مطبقة طقس "السبوته"، أي زيارته فجر كل سبت لتحقيق رغبتها.

القسوة هنا مؤذية وجرح المشاعر بيّن، وللمرء أن يتخيل أثر هذه الملاحظة فيمن فاتها قطار الزواج من دون إرادتها ليعرف كم كان "الحشّاش" عديم الشفقة تجاهها. وهو في قسوته هذه ذكرني فورا بالملاحظات العميقة التي كتبها هنري بيرجسون عن فلسفة الضحك ومنها قوله: "لا يكون الضحك عادلا عدلا مطلقا، وأكرر أنه ليس طيبا في كل الأحيان، أن وظيفته هو أن يخجل ويخزي، وما كان ليظفر في مهمته لولا أن أودعت الطبيعة حتى في خيرة الناس حفنة من شر أو من خبث على الأقل، ولعل من الخير ألا نتعمق هذه النقطة كثيرا فلن نجد فيها ما نفخر به".

نعم، ما يبدو "مخزيا" بالنسبة لنا كضاحكين من بعضنا بعضا، قد يتحول لشكلٍ من أشكال الكراهية المؤذية، وهذه الأخيرة تنطلق من موقفٍ استعلائي ضحيته الآخر المختلف عنك، سواء في اللهجة أو الهيئة أو المنحدر. نرى الأحدب فنغرق بالضحك من شكله، ونتأمل القزم فنبتسم في سرنا من اختلافه عنا. أما إذا صادفنا مصابا بالتأتأة، فالويل له من تهكمنا المرير، بل إن هذا الأخير بطل دائم الحضور في البرنامج، شأنه شأن ذوي العاهات الأخرى، الجسمية والمعنوية.

في الحلقة التي تابعتها، يورد أحدهم "نكتة" واقعية عن شاب مبتور الرجل يضطر لخلع طرفه الصناعي بسبب زحام في مكان ما فتضيع منه، وفي الأخير، يأتيه شاب وهو يحمل أربعة أطراف ويقول له - الك هاي الرجلين؟ فيجيب الأول ساخرا من حاله - شنو أبو سبعة وسبعين!

بيرجسون تحدث عن هذا أيضا فقال إنّ فلسفة الضحك تقوم على تعطيل مشاعر الشفقة واستبدالها مؤقتا بتحجر وقسوة غريبين وينافيان فطرة الإنسان السليمة. إذ رغم أن المضحوك عليه أدعى للشفقة وأجدر بالمحبة، إلا إننا "حينذاك ننسى هذه المحبة ونسكت تلك الشفقة بضع لحظات"، ثم نمعن في إيذائه مداعبين شعورنا الفض بالنرجسية والكمال.

ماذا عن منحدرات ضيوف هذا البرنامج ولهجتهم وطريقة حديثهم عن بيئتهم والصورة التي يروجونها عن أنفسهم؟

محور آخر سأحاول إضاءته في مناسبة أخرى .