يقفُ العراقيون عراةً عُزّلاً أمام طواحينَ هواءٍ عملاقة، في لحظةٍ فاصلةٍ لا تُشبهُ أي لحظةٍ تاريخيةٍ سابقةٍ في التاريخ المرير لهذه الأرض الحائرة بأهلها، والمنقلبة بهم دوماً على وفقِ أمزجةِ الحكام والغزاة، والناسُ يتلقون موتهم وحصارهم و"الأذية" المفروضة عليهم بفعل صمتهم، دون مبادرة تغيير، تنقلهم من حال الضيق والمفخخات والجهل الاجتماعي الى واقعٍ أخر ربما يحققون به أمنياتهم الشفاهية والمكرورة منذ بدء التاريخ، كأن هواناً مريعاً يستعمر نفوسهم، ويبقيهم في حالة خدرٍ مريب، ما يجعل الباب الموارب مفتوحاً للامعان في القهر والاذلال والتدجين والترويض من الحكام ومن الاعداء المتكاثرين في الجغرافية العراقية، من عرب وعجم و"داعشيون".
العام 2013، عامٌ برقم شؤم، دلالة الرقم الآتية من اللاهوت الكنسي الإنجيلي، باتت مواتية لفعل الموت العراقي في عام الحزن هذا، ولربما أمعن القتلة من حكومة متراخية القبض، شريكة بالجرم لجهة تقاعسها عن حماية الناس، ومن أعداء لها لا يصلون منطقتها "الخضراء" فقرروا اصطياد "الرعايا" في الشوارع والساحات والعزاءات.
القتلة مبادرون، يتمتعون بقبضة "اليد الضاربة"، يمتلكون المبادرة الجسورة، أمام دولة بحكومةٍ ومؤسسات وأجهزة أمنية متكاثرة، تتمثل بثلاث وزارات للأمن من دفاع وداخلية وامن وطني، وخمس هيئات أمنية، كلها لا تستطيع ضبط الأمن الذي بات نادراً في زقاق صغير ولا مدينة كبيرة ولا حتى عاصمة.
الجسم الأمني العراقي بات من الضعف لدرجة "الحيرة"، فالخطط التي يضعها كبار الضباط في هيئة الأركان ومكتب القائد العام والداخلية، "الدمج" منهم والمخضرمين، تتهاوى بعد كل ضربة "داعشية" تنفذ باسترخاء وحنكة، فيما تتقافز التصريحات من على شاشات الأجر اليومي، والقناة الرسمية المجيّرة لعرض انجازات في جزر القُمر، فيما العراقيون يعيشون في جُزرٍ أمنية معزولة، يُسبّحون بحمد الشواطئ الكونكريتية البشعة والشوارع المقطعة.
يبلغ عديد القوات الامنية العراقية 733 ألفاً و517 عنصرا، يتوزعون على 15 محافظة، وفقاً لإحصاءات المفوضية العليا للانتخابات في العراق في التصويت الخاص، والذي يجعله احصاءً اقرب الى الاعتماد والتصديق، لان الأحزاب التي جرّت على البلد الخراب، لا تتهاون في مسألة احتساب الأصوات لحصاد المقاعد والتمثيل على حساب تهاونها بضبط الأمن والتشريعات والفساد، رغم ان الاتحاد الأوروبي (بحسب استرون استيفنسون رئيس هيئة العلاقات مع العراق في البرلمان الأوروبي في تموز الماضي) يرفع من سقف الرقم الى مليون ونيف عنصر امن، لكن ما يهم ان هذا العديد وكأن قبائل تتقاسم المدن، وتحولها الى ثكنات، وتعسكر المجتمع، غير قادرٍ على ضبط الامن، فيما الساسة يلقون اللائمة على ضعف الجهد الاستخباري لا الميداني، بينما المبادرون "الاقوياء" في "داعش" يملكونهما على حد سواء!
ومن الغرابة التي لا يُلبس عليها لا ثوب ولا تنفع معها قطرة خجل، ان القائد العام للقوات المسلحة المتحصن بخطوط حماية دفاعية وهجومية في المنطقة الخضراء، بدل أن يستحي من دماء العراقيين المُراقة، يأمر أمس الثلاثاء في الجلسة الاعتيادية لمجلس الوزراء بمنح مخصصات وقتية قدرها 50% من الراتب الكلي على ان لا تتجاوز 500 الف دينار استنادا الى احكام المادة 15 من قانون رواتب موظفي الدولة والقطاع العام الى افراد ومراتب وضباط القوات المسلحة (الجيش والشرطة) العاملين في المناطق الساخنة التي يفرض فيها الانذار وهي (بغداد، نينوى، كركوك، ديالى، الانبار، صلاح الدين، الحلة) او اية منطقة اخرى ساخنة تحددها اللجنة الوزارية للأمن الوطني، ما يعني ارهاقا مضاعفا للميزانية العامة بمزيد من الهدر، وضرب سياسات ضبط الاقتصاد للسيطرة على التضخم والاسعار، والتخفيف من حدة الاعتماد على اقتصاد الدولة عرض الحائط. فالمالكي وكابينته الحكومية، لا يُفكر/ون بعقلية رجل الدولة، بل يُفكر/ون بعقلية "القبائلي" وسياسة "ضبط القرية" وجمع الاتباع، هذا قرارٌ سيشجع الجهاز الامني الفاشل على مزيد من الفشل، وسيفرعن البساطيل على الدولة المدنية، فنحن لا نملك جيشاً ولا جهازاً امنياً له عقيدة واضحة ولا تقاليد راسخة، انما قوة مفككة بعقلية عاطلة.
منذ بداية عام الشؤم هذا، صرفت اكثر من 20 مليار دولار على القوات الامنية من جيش وشرطة وصنوف اخرى، ويؤكد لي مستشار سياسي مقرب من وزير الدفاع بالوكالة سعدون الدليمي، ان ما صرف هو 90 مليار دولار في عامين حتى اللحظة، ويضيف ان "هذا الصرف الملياري المجنون لم يرفع قدرة القوات الامنية الى ربع الجاهزية!"، مصروفات عسكرية هائلة في الوقت الذي تبلغ فيه ديون العراق الخارجية نحو 50.790 مليار دولار ويبلغ احتياطيه من الذهب والعملة الصعبة حسب احصاءات 2012 نحو 58.960 مليار دولار!
"جيش" العراق الان، يأتي في المرتبة 58 في ترتيب الجيوش في العالم من اصل 68 جيشاً على مقياس معياري من 40 نقطة، وفقا لموقع غلوبل فاير باور (Global Firepower) المتخصص بالشؤون العسكرية في دراسة اصدرها في حزيران الماضي، بين ان العراق يمتلك 396 دبابة حسب إحصاءات 2012 بالإضافة إلى 2.643 عجلة قتال مدرعة مع 500 قطعة سلاح محمولة مضادة للدروع و9000 عجلة لوجستية و 278 طائرة مع 129 طائرة هليكوبتر فيما يمتلك 88 قطعة مختلفة من زوارق حربية ودورية وساندة مع عدم إمتلاكه لأي غواصة أو فرقاطة أو كاسحة الغام، ويتكون حاليا من 15 فرقة عسكرية معظمها فرق مشاة.
عدد القتلى هذا العام الذي لم ينته بعد، والذي تشير المصادر الموثوقة الى ان الشهر الجاري (تشرين الاول) سيكون شهراً داميا، ان لم يكن الاكثر دموية وعنفاً، بلغ 6000 الاف قتيل، جراء التفجيرات اليومية، وقد يبطل عجب الاستغراب من الرقم المهول، لجهة ان "داعش" او فرع القاعدة في العراق والشام نفذ خلال الاشهر التسع من العام 2013 اكثر من 1680 عملية إرهابية في العراق! بينما القوات الامنية لم تستطع ان ترد على اية عملية من تلك العمليات، بل كان اداؤها مصاباً بالشلل، فراحت تنبش في المنطقة الخطأ عن الحلول الصحيحة، ذهبت بمهمة كاميكازية الى حزام بغداد لـ"تجفيف منابع الارهاب" فحفزت الخلايا في العاصمة داخل الحزام فضربت بقسوة، وفشلت المهمة، والنتيجة ان خلايا الحزام ومجموعات داخل العاصمة تحفزتا، كمن عنده "حبّة بغداد" نكزها فالتهبت وخزّنت "جراحة" ففتقت وفار الدم عبيطا وقيحاً زؤام، لذا باتت القوات الامنية أزاء جبهتين مريرتين، وجبهة مستترة ثالثة ممولة تتمثل بـ"650 ألف طن" من الأسلحة غير المرخصة في العراق.
ايها العراقيون عليكم بأحزمتكم، واتركوا أحزمة الحكومة و"داعش"، فان خير الامن ما أستتب في نفوسكم، ولا تلعبوا بـ"حبّة بغداد" ولا "حبّات" خارج الحدود!
|