آدم ليس أول البشر... بقلم: الشيخ عباس الزيدي

 

 

 

 

 

 

مرَّ علينا فيما مضى نصوص متنوعة مختلفة فيما بينها، إلا أنها تتفق على مضمون واحد وهو أن هناك أكثر من آدم واحد، وقد يدعو هذا الأمر إلى الظن بوجود تعارض أو تضاد فيما بينها، ولكننا بإذن الله سنحاول أن نبين أن لا تعارض بينها وأن بعضها تحدث على نحو الإجمال وبعضها تحدث بلسان (كلموا الناس على قدر عقولهم) لعدم قدرة السامع حينها على استيعاب المضمون وتحمله، بل سنجد أن الاختلاف جاء بسبب اختلاف المعنى والمضمون المراد في النص، وقبل الشروع في بيان هذه النصوص نقرأ هذا النص المهم الذي جاء في أحد مصادر الشيعة :

عن كتاب "جامع الأخبار" القرن 6 ـ 7 هـ : ((قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إن موسى سأل ربه عز وجل أن يعرفه بدء الدنيا منذ كم خلقت، فأوحى الله تعالى إلى موسى : تسألني عن غوامض علمي؟، فقال : يا رب أحب أن أعلم ذلك. فقال : يا موسى! خلقت الدنيا منذ مائة ألف ألف عام عشر مرات، وكانت خراباً خمسين ألف عام، ثم بدأت في عمارتها فعمرتها خمسين ألف عام، ثم خلقت فيها خلقاً على مثال البقر يأكلون رزقي ويعبدون غيري خمسين ألف عام، ثم أمتهم كلهم في ساعة واحدة، ثم خربت الدنيا خمسين ألف عام، ثم بدأت في عمارتها فمكثت عامرة خمسين ألف عام، ثم خلقت فيها بحراً فمكث البحر خمسين ألف عام لا شئ مجاجاً من الدنيا يشرب، .............. فمكثت الدنيا خراباً خمسين ألف عام، ثم بدأت في عمارتها فمكثت خمسين ألف سنة، ثم جعلت الدنيا كلها آجام القصب وخلقت السلاحف وسلطتها عليها، فأكلتها حتى لم يبق منها شيء، ثم أهلكتها في ساعة واحدة، فمكثت الدنيا خراباً خمسين ألف عام، ثم بدأت في عمارتها فمكثت عامرة خمسين ألف عام، ثم خلقت ثلاثين آدم ثلاثين ألف سنة من آدم إلى آدم ألف سنة، فأفنيتهم كلهم بقضائي وقدري، ........... ثم خربتها فمكثت خراباً خمسين ألف عام، ثم بدأت في عمارتها فمكثت عامرة خمسين ألف عام، ثم خلقت أباك آدم "عليه السلام" بيدي يوم الجمعة وقت الظهر، ولم أخلق من الطين غيره، وأخرجت من صلبه النبي محمداً)). المجلسي، بحار الأنوار 54 : 330 ـ 331.

وأهم ما يعنينا في هذا النص أولاً :

ـ ((خلقت الدنيا منذ مائة ألف ألف عام عشر مرات))، أي منذ مليار سنة قبل عصر موسى. وهنا قد يفهم كما في غيره من الموارد أن المقصود من الدنيا هو الكون والأرض والسموات، وهذا فهم شائع خاطئ حتى عند المفسرين، بينما القصد هو أن العالم تهيأ لاستقبال الحياة الأولى على هذه الأرض، إذ كثيراً ما نسمع في القرآن لفظ (الحياة الدنيا)، فيظن القارئ أن القصد هو بداية العالم، وهذا ليس صحيحاً جزماً، فلفظ الدنيا نسبي بالقياس الى الحياة الأخرى، التي هي أيضاً على هذه الأرض، والدنيا من التدني والتسافل، وهذا شأن كل عصر الى ما بعده، فكل عصر هو عصر دنيا بالقياس الى ما بعده، وهذا هو حال الحياة التي تسير متطورة الى الأمام، وحسب التعبير الإسلامي (السير نحو التكامل)، ومقتضى هذا السير هو أن اللحظة الآنية أفضل من التي قبلها وهكذا القادمة أفضل من الحالية، الى أن تصل الى مرحلة لا دنيا ولا آخرة حيث يتكامل الإنسان فيصبح من الظلم حبسه في هذا الجسد، وهو ما يعبر عنه بنهاية العالم، أي العالم المادي الذي تمثل الأرض والشمس أهم مقوماته، ونعرف أن العلماء أعطوا زمناً لنشوء الأرض والشمس وهو أربعة مليارات وخمسمائة مليون عام ومثل هذا الزمن لنهاية الشمس بالتالي نهاية الكائنات الأرضية التي لا يمكن أن تعيش من دون شمس حيث ستنخفض درجات الحرارة الى ما لا يمكن أن يصلح للحياة البشرية بشكلها الحالي. وبما أن عمر الأرض هو 4 , 5 مليار عام، فمن المؤكد أن الحياة الأولى لم توجد منذ وجدت الأرض وإنما استغرقت زمناً طويلاً حتى تصبح الأرض صالحة للحياة بشكلها الأول الذي نجهله، وهنا نجد أن النص يعطي مدة مليار عام على بداية الحياة، أي أن الأرض أصبحت مؤهلة لاستقبال الحياة الأولى، وكما قلنا سابقاً فإن هذه الأرقام التي تذكر في النصوص لا تعني بالضرورة تحديد الرقم بدقة، وإنما لغرض بيان الكثرة الكاثرة، وهنا لا بد أن نفهم أن عصر النص لا يحتمل أكثر من ذلك، لأن السامعين للحديث قد لا يستوعبون في كثير من الأحيان هذه الأرقام، في وقت كان العالم يعتقد أن عمر الأرض هو ستة آلاف عام، وهو فهم متعارف حتى عند المسلمين بناء على فهمهم لهذه الآية، ((إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)) الأعراف 54، ويونس 3، وهود 7، والفرقان 59، والسجدة 4، و ق 38، والحديد 4.

بداية أن الفهم السائد هو أن هذه الأيام الستة هي التي أشارت إليها التوراة في سفر التكوين :

((الأصحاح الأول 1 في البدء خلق الله السماوات والأرض . 2 وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه 3 وقال الله ليكن نور فكان نوره 4 ورأى الله النور أنه حسن . وفصل الله بين النور والظلمة . 5 ودعا الله النور نهارا والظلمة دعاها ليلا . وكان مساء وكان صباح يوما واحدا 6 وقال الله ليكن جلد في وسط المياه . وليكن فاصلا بين مياه ومياه 7 فعمل الله الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد . وكان كذلك . 8 ودعا الله الجلد سماء . وكان مساء وكان صباح يوما ثانيا 9 وقال الله لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة . وكان كذلك . 10 ودعا الله اليابسة أرضا . ومجتمع المياه دعاه بحارا . ورأى الله ذلك أنه حسن . 11 وقال الله لتنبت الأرض عشبا وبقلا يبزر بزرا وشجر إذا ثمر يعمل ثمرا كجنسه بزره فيه على الأرض . وكان كذلك . 12 فأخرجت الأرض عشبا وبقلا يبزر بزرا كجنسه وشجرا يعمل ثمرا بزره فيه كجنسه . ورأى الله ذلك أنه حسن . 13 وكان مساء وكان صباح يوما ثالثا 14 وقال الله لتكن أنوار في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل . وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين . 15 وتكون أنوارا في جلد السماء لتنير على الأرض . وكان كذلك . 16 فعمل الله النورين العظيمين . النور الأكبر لحكم النهار والنور الأصغر لحكم الليل . والنجوم . 17 وجعلها الله في جلد السماء لتنير على الأرض 18 ولتحكم على النهار والليل ولتفصل بين النور والظلمة . رأى الله ذلك أنه حسن . 19 وكان مساء وكان صباح يوما رابعا 20 وقال الله لتفض المياه زحافات ذات نفس حية وليطر طير فوق الأرض على وجه جلد السماء . 21 فخلق الله التنانين العظام وكل ذوات الأنفس الحية الدبابة التي فاضت بها المياه كأجناسها وكل طائر ذي جناح كجنسه . ورأى الله ذلك أنه حسن . 22 وباركها الله قائلا أثمري وأكثري واملأي المياه في البحار . وليكثر الطير على الأرض . 23 وكان مساء وكان صباح يوما خامسا 24 وقال الله لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها . بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها . وكان كذلك . 25 فعمل الله وحوش الأرض كأجناسها والبهائم كأجناسها وجميع دبابات الأرض كأجناسها . ورأى الله ذلك أنه حسن . 26 وقال الله نعمل الانسان على صورتنا كشبهنا . فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض . 27 فخلق الله الانسان على صورته . على صورة الله خلقه . ذكرا وأنثى خلقهم . 28 وباركهم الله وقال لهم أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض . 29 وقال الله إني قد أعطيتكم كل بقل يبزر بزرا على وجه كل الأرض وكل شجر فيه ثمر شجر يبزر بزرا . لكم يكون طعاما . 30 ولكل حيوان الأرض وكل طير السماء وكل دبابة على الأرض فيها نفس حية أعطيت كل عشب أخضر طعاما . وكان كذلك 31 ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدا . وكان مساء وكان صباح يوما سادساً. الأصحاح الثاني 1 فأكملت السماوات والأرض وكل جندها . 2 وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل . فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل . 3 وبارك الله اليوم السابع وقدسه . لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقا 4 هذه مبادئ السماوات والأرض حين خلقت)).

وقد تأثر الإخباريون المسلمون بالنص التوراتي أو باليهود الذين أسلموا فتم تفسير النص القرآني على ضوء الفهم السطحي للتوراة، ونلاحظ من التوراة أعلاه أن اليوم الواحد من الأيام الست يفهم على أنه اليوم المعتاد المتكون من 24 ساعة، وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال لفظ (وكان مساء) الذي تكرر كما لاحظنا، بينما يمكن أن نعطي تفسيراً آخر للنص التوراتي نفسه، فالمساء الوارد هنا عبارة عن الفترة التي تمتد بين تطور وآخر، ففترة سيادة الماء على الأرض عبر عنها بالمساء الذي سبق ظهور اليابسة، وهو تعبير رمزي اشتهرت به التوراة؟

وقد رفض أئمة أهل البيت (عليهم السلام) التفسير السائد بشكل نهائي، واسندوا تفسيرهم الى النص القرآني، وقبل أن نستعرض الروايات نذكر أولاً الآيات القرآنية التي تحدد اليوم المعني مرة بألف سنة أرضية، ومرة بخمسين ألف سنة أرضية :

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ }الحج47.

{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ }السجدة5.

{مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ{3}تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }المعارج4.

وأكد الأئمة أن اليوم المعني هو خمسون ألف سنة مما تعدون وليس الألف، وهذا ظاهر من خلال التمعن بالآيات المذكورة، وجاء في الحديث :

((عن حفص بن غياث قال : قال أبو عبد الله : إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئا إلا أعطاه فلييأس من الناس كلهم ولا يكون له رجاء إلا من عند الله عز ذكره، فإذا علم الله عز وجل ذلك من قلبه لم يسأله شيئا إلا أعطاه، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا عليها فإن للقيامة خمسين موقفا كل موقف مقداره ألف سنة ثم تلا : " في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون")). الكليني، الكافي 8 : 143.

أي أن العالم في كل ألف سنة يشهد انتقالة معينة، لتجمع آخراً في نهاية الطور الذي هو (خمسون ألف سنة) حيث تنتقل البشرية الى طور جديد، كما في الرواية عن الصادق (عليه السلام) :

((عن عيسى بن حمزة قال : قال رجل لأبي عبد الله عليه السلام : جعلت فداك ان الناس يزعمون أن الدنيا عمرها سبعة آلاف سنة فقال : ليس كما يقولون إن الله خلق لها خمسين ألف عام فتركها قاعا قفراء خاوية عشرة ألف عام، ثم بدا لله بدأ الخلق فيها، خلقا ليس من الجن ولا من الملائكة ولا من الانس، وقدر لهم عشرة ألف عام، فلما قربت آجالهم أفسدوا فيها فدمر الله عليهم تدميرا ثم تركها قاعا قفراء خاوية عشرة ألف عام، ثم خلق فيها الجن وقدر لهم عشره ألف عام، فلما قربت آجالهم أفسدوا فيها وسفكوا الدماء وهو قول الملائكة " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " كما سفكت بنو الجان، فأهلكهم الله ثم بدأ الله فخلق آدم وقدر له عشرة ألف عام، وقد مضى من ذلك سبعة ألف عام ومائتان وأنتم في آخر الزمان)). العياشي 1 : 31 ــ 32.

وعلى ضوء هذا النص وغيره نفهم أن كل خمسين ألف سنة ينتقل العالم الى طور جديد، ورأينا أن هذا الطور الذي نعيشه تبقى منه حوالي 1500 عام، وهو ما يمكن أن نقول عنه أنه شكل من أشكال القيامة، التي ينتج عنها ثواب وعقاب، ولكن ليس وفق المتبادر الى الذهن وفق التربية القديمة التي تتصور مكانين في المجهول أحدهما جنة سماوية، والآخر جهنم مجهولة المكان، وإنما كل الحديث عن الأرض، وأنها سيكون لها شأن آخر في قادم الأيام، وهذا ما سنفصله في بحث (الجنة).

نخلص الى أن (الأيام الست) التي خلق فيها الله تعالى السموات والأرض، تعني أولاً 300.000 عام، على أساس أن كل يوم كخمسين ألف سنة أرضية، وتعني أن خلق السموات والأرض في هذه الأيام الست ليس إيجادهما بل هما مخلوقتان قبل ذلك، وإنما جعلهما متهيئتان ومكيفتان لاستقبال الحياة البشرية، أو أن مرحلة إيجادهما إلى استقرارهما استغرقت المدة المذكورة، وربما يمكن الجمع بين ما يقول العلم الحديث عن أن الأرض بعد أن انفصلت عن الشمس بعد الإنفجار الكوني وكانت عبارة عن كتلة من اللهب واستغرقت مدة طويلة من الزمن حتى تبرد، ومن بعد ذلك أصبحت منخفضة الحرارة بحيث كانت عبارة عن كتلة من الجليد، ومن ثم ذاب هذا الجليد فأصبحت بحراً من المياه بلا حياة ظاهرة، وبعد أن ارتفعت درجة الحرارة وتبخر الماء ظهرت اليابسة ومن ثم بدأت رحلة الحياة على الأرض، ومن الضروري أن نفهم أن كلمة الأرض التي وردت في القرآن أو الأحاديث لا تعني بأي شكل من الأشكال الكرة الأرضية، وإنما خصوص أرض حددت بين وادي النيل مروراً بالجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق الى منابع دجلة والفرات وتنتهي بخراسان، وهذا ماسنأتي على تفصيله في محله بإذن الله تعالى.

نعود مرة أخرى الى معنى {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ }السجدة5. وكيف نميزه عن اليوم الآخر في قوله تعالى : {مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ{3}تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }المعارج4.

يقول العلامة الطباطبائي :

((قوله تعالى : (يدبر الامر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) تتميم لبيان أن تدبير أمر الموجودات قائم به سبحانه وهذا هو القرينة على أن المراد بالامر في الآية الشأن دون الامر المقابل للنهي. والتدبير وضع الشئ في دابر الشئ والاتيان بالامر بعد الامر فيرجع إلى اظهار وجود الحوادث واحدا بعد واحد كالسلسلة المتصلة بين السماء والأرض وقد قال تعالى : (وان من شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم) الحجر : 21، وقال : (انا كل شئ خلقناه بقدر) القمر : 49. وقوله : (ثم يعرج إليه) بعد قوله : (يدبر الامر من السماء إلى الأرض) لا يخلو من اشعار بأن (يدبر) مضمن معنى التنزيل والمعنى : يدبر الامر منزلا أو ينزله مدبرا - من السماء إلى الأرض ولعله الامر الذي يشير إليه قوله : (فسواهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها) حم السجدة : 12 . وفى قوله : (يعرج إليه) اشعار بأن المراد بالسماء مقام القرب الذي تنتهي إليه أزمة الأمور دون السماء بمعنى جهة العلو أو ناحية من نواحي العالم الجسماني فان الامر قد وصف قبل العروج بالنزول فظاهر العروج أنه صعود من الطريق التي نزل منها ، ولم يذكر هناك الا علو هو السماء ، وسفل هو الأرض ونزول وعروج فالنزول من السماء والعروج إلى الله يشعر بأن السماء هو مقام الحضور الذي يصدر منه تدبير الامر أو أن موطن تدبير الامر الأرضي هو السماء والله المحيط بكل شئ ينزل التدبير الأرضي من هذا الموطن ، ولعل هذا هو الأقرب إلى الفهم بالنظر إلى قوله : (وأوحى في كل سماء أمرها). وقوله : (في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) معناه على أي حال أنه في ظرف لو طبق على ما في الأرض من زمان الحوادث ومقدار حركتها انطبق على ألف سنة مما نعده فان من المسلم أن الزمان الذي يقدره ما نعده من الليل والنهار والشهور والسنين لا يتجاوز العالم الأرضي. وإذ كان المراد بالسماء هو عالم القرب والحضور وهو مما لا سبيل للزمان إليه كان المراد أنه وعاء لو طبق على مقدار حركة الحوادث في الأرض كان مقداره ألف سنة مما تعدون. وأما أن هذا المقدار هل هو مقدار النزول واللبث والعروج أو مقدار مجموع النزول والعروج دون اللبث أو مقدار كل واحد من النزول والعروج أو مقدار نفس العروج فقط بناء على أن (في يوم) قيد لقوله : (يعرج إليه) فقط كما وقع في قوله : (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) المعارج : 4. ثم على تقدير كون الظرف قيدا للعروج هل العروج مطلق عروج الحوادث إلى الله أو العروج يوم القيامة وهو مقدار يوم القيامة، وأما كونه خمسين ألف سنة فهو بالنسبة إلى الكافر من حيث الشقة أو أن الألف سنة مقدار مشهد من مشاهد يوم القيامة وهو خمسون موقفا كل موقف مقداره ألف سنة. ثم المراد بقوله: (مقداره ألف سنة) هل هو التحديد حقيقة أو المراد مجرد التكثير كما في قوله : (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) البقرة : 96، أي يعمر عمرا طويلا جدا وان كان هذا الاحتمال بعيدا من السياق. والآية - كما ترى - تحتمل الاحتمالات جميعا ولكل منها وجه والأقرب من بينها إلى الذهن كون (في يوم) قيدا لقوله : (ثم يعرج إليه) وكون المراد بيوم عروج الامر مشهدا من خمسين مشهدا من مشاهد يوم القيامة، والله أعلم)). تفسير الميزان 16 : 247 ــ 248.

الخلاصة : أن ألف سنة هو مرحلة من خمسين مرحلة يمر بها العالم في مسيرته، وبعد اكتمال خمسين ألف سنة، يكون هناك شكل من أشكال القيامة، ولكنها ليست القيامة بمعنى زوال الأرض، وإنما هو على العكس تماماً يعني بداية طور جديد يتمايز فيه البشر على أساس ما قدموه من خير أو شر، خلال الطور كله، وهو ما أشار إليه القرآن بقوله  {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }إبراهيم48، فالأرض هي نفسها ولكن ستتبدل طبيعتها بما يتلائم مع الطور الجديد والبشرية الجديدة أو العالم الجديد، وللحديث تفاصيل لا يتسع لها الحال سنأتي على جزء منه عند الحديث عن (جنة آدم وجنة الآخرة).

 

وربما أعطينا فهما مبسطاً لما ورد في الرواية أعلاه، وأن اليوم الذي ذكر في القرآن هو خمسون ألف سنة، وأن كل خمسين ألف سنة تشهد إنتقالة جديدة وآدم جديد، وهذا ماسيحدث أيضا ًفي المستقبل، وليس معنى ذلك أنه سيكون أباً للبشرية جمعاء، وإنما هو النموذج المختار والأعلى الذي سيقود البشرية، نحو تكاملها. ونكمل في الحلقة التالية بإذن الله تعالى.