حوار أدبي مع الشاعر حارث معد... حسين علي غالب |
بين الطرق العتيقة والبيوت التي تحتضنها القلوب الدافئة التقينا مبدعا من مبدعي محافظة نينوى أم الربيعين أنه " حارث معد أحمد الجبوري " الشاعر المعروف وعازف العود، وفي هذا الحوار نحاول أن نأخذ قطعة من كنز "حارث معد" الأدبي لكي نقدمها لكم فأهلا وسهلا بالشاعر "حارث معد " و لنبدأ بالسؤال الأول: * لكل شاعر طقوس خاصة تولد عبرها القصيدة فما هي الطقوس الخاصة التي يمارسها الشاعر حارث معد لكي تولد القصيدة وتنقل إلى صفحات الورق ..؟؟ - يرى من يعرفني أن مسألتي في الكتابة غريبة بعض الشيء ذلك أنني لا استخدم القلم بل اكتب على الموبايل مباشرة وهذا ما يتيح لي الكتابة في أي مكان وزمان حين تتوالد الأفكار والصور في مخيلتي، حتى أني اكتب أحيانا وأنا وراء مقود سيارتي أو على الدراجة البخارية عند التوقف أو في موقع عملي ، ثم أعود لنقل ما كتبته إلى الحاسوب فأنقح بعض ما كتبته . من جانب آخر.. أنا ليس لدي وقت معين للكتابة فقد اكتب صباحا أو ليلا أو خلال النهار .. وإذا كان من يعرفني كما قلت يستغرب طريقتي في الكتابة فانا لا استغرب ذلك خاصة بعد أن تعرفت على طرق كتابة العديد من الشعراء العرب قصائدهم فنهم من لا يستطيع قول قصيدته إلا وهو على ظهر الناقة ومنهم من لا تطيب له الكتابة إلا بعد أن يحلق شعر رأسه، ومن الأجانب الروائيين المعروفين من لا يستطيع الكتابة إلا بعد الاستحمام وشرب كاس، والذي اعرفه أن والدي يكتب القصيدة بعد أن يفرش أوراقه على الوسادة وقد أشرت إلى ذلك في مقطع من قصيدتي (شمعة لهلال بعيد) أقول فيه ( وأبي شاعر على وسادته تتعرق الأوراق ). ويقال إن الشاعر المعروف أدونيس لا يكتب إلا بالقلم الرصاص وهو منبطح على بطنه .. ولا بد أن هناك طقوس أخرى متعددة للكتابة. * أنت منذ عام 1992 عضو نقابة الفنانين لكن كيف ولماذا دخلت الوسط الأدبي متأخرا، أي في السنوات الأخيرة..؟؟ و حين بدأت كيف تلقى الآخرون نصوصك الشعرية - إن الإبداع كما أرى يبدأ من دائرة الحلم والتحدي والحس الفني ونضج تجربة الحياة، ولئن كنتُ سابقا قد كتبت بعض المحاولات الشعرية فلم يكن لديَّ دافع لمواصلة الكتابة. وفي أحد أيام أيار عام 2011 كنت أمضي ساعات انتظار ممل أمام دائرة الجوازات في نينوى أنا وصديقي الشاعر سيف الدين جميل، بمطالعة ما وقع بين أيدينا من صحف، فتجهمتْ وجوهنا مما اطلعنا عليه من نصوص نثرية بائسة، وأنا بعد لم أكن راغبا بنشر ما أكتب قبل تلك اللحظة، فكان ذلك حافزا لي أن أرد على كتابات يطلق عليها أصحابها قصائد نثر. وقدرت أن ردي على ذلك المستوى الهابط الهجين من النصوص ينبغي أن يكون بكتابتي قصائد نثر جديدة تحاول رمي محاولاتي الأولى وما أقرأه ورائي واختراق المشهد الشعري بالمختلِف والمثير .. وأخذني الشرود وأنا بانتظارٍ مميت للجواز الذهبي، فبدأتْ أناملي بالضغط على حروف الموبايل لإعداد أول قصيدة في أول محاولة جادة للنشر بعد أن كنت سابقا غير عازم على الظهور في المشهد الشعري لعدة أسباب، في مقدمتها الخوف من ضياع سفني في بحر والدي الشاعر المعروف معد الجبوري، فتلوتُ ما كتبتُ على مسامع أول من شدَّ على يدي وحثني على النشر، الإنسان النبيل شاعر التفعيلة سيف الدين جميل فتأمل لحظات وأسفر وجهه عن ابتسامة اتبعها بقوله: إن هذا والله شعر حقيقي.. كان عنوان القصيدة (وجهك الذي غاب) فدفعتها بعد أيام إلى جريدة (آفاق الموصل) بعد أن اطلع عليها صديقي الشاعر كرم الأعرجي الذي كان يدير تلك الصحيفة آنذاك، فنشرها. هكذا بدأت رحلتي المضنية لإثبات شاعريتي، وكان معظم مَن يزورونني في محل عملي قد أخذ الشك بما أكتب يساور قلوبهم، وكان عليَّ أن أواصل مسيرة إقناع مَن أحاطوني بالشكوك والاتهامات بالكف عن ذلك، إذ وصل الريب ببعضهم إلى أن يسألني: مِن أين تجلب هذه النصوص وتضع العناوين عليها؟ حتى قلت لنفسي: أينبغي أن نكون نحن هكذا في مدينة عريقة مثل الموصل، ما أن نرى ومضة في الأفق حتى نزيح أنظارنا عنها، بدلا من الإشارة إليها..؟؟!! لكنني واصلت وبدأت نصوصي تملأ المواقع والصحف وتحظى بما يسرني، بل دعت أحد الكتاب إلى تحذيري مما أسماه (عدائية الكبار) و واقع الأمر أن العدائية جاءتني من الصغار لا الكبار، سواء بادعاء بعضهم أن ما أكتبه كان يخرج من مشغل والدي الشاعر، أو صمت البعض وتعمد البعض تجاهل ما أنشر، مع أنني قررت أن أحذف لقب (الجبوري) من اسمي كي لا يربط المتشككون بين إبداع الوالد ومحاولاتي المختلفة عنه تماما، كما جرى مع أخي الفنان وكاتب النص المسرحي رائد معد، الذي قال لي: ( إن كل ما ستبتكره من صور ومفردات سيقال عنها هي من ابتكار معد الجبوري، فأنا قبل أن تنشر عانيت فيما نشرته من مثل هذه الاتهامات) ومع وضع ما قاله رائد في الحسبان، فإن إصراري دفعني إلى المواصلة، على أن فكرة الحفاظ على الطابع الأدبي العريق الذي عُرِفتْ به أسرتنا، منذ سنين بعيدة، لم تغبْ عن بالي ، مع قناعة بأن تواصل الأجيال يستدعي الإيمان بفكرة التطور والتجديد. * والدك الأديب الكبير المعروف الأستاذ معد الجبوري الذي مثل العراق خير تمثيل في كل مكان .. كيف تلقى نصوصك الشعرية الجديدة، ومَن مِن الأدباء المعروفين في مدينتك الموصل وقف إلى جانبك؟ - لم يكن والدي مقتنعا بولوجي عالم الشعر، لما يحمله من انطباع عن ابنه المنشغل منذ صباه بأعماله التجارية وعراك الحياة المضني، والذي لم يكن له في ميدان الأدب سوى القراءة المستمرة، وقول والده له إذا أفصح عن رغبته بكتابة الشعر: إما أن تكون شاعرا أو تاجرا. ولقد لجأتُ أول الأمر إلى الشاعر الكبير عبد الوهاب إسماعيل أحد أعز أصدقاء والدي الأوفياء فعرضتُ عليه نصوصي فكان الأذن الصاغية والصدر الرحب بعد أن استمع إليَّ وفوجئَ، فسألني: ألم يطلع والدك على هذا الإبداع فأنت حقا مشروع شاعر مدهش، فقلت له: عليك إقناعه للاطلاع بجد على ما أكتبه من نصوص فالتقى به وأقنعه. وهرعت إلى والدي فحظيتُ منه باحتضان أدبي ليس له مثيل .. فبعد أن قرأ لي، فوجئ وقال: اسمع يا حارث، إن لديك حساسية شعرية عالية وصور مدهشة، وسأكتفي بتصويب أخطائك في اللغة والإملاء، حتى تتجاوزها أنت مستقبلا.. ثم شجعني على النشر، وحثني على أن أكتب بحرية دون الالتفات إلى أي رأي يحد مِن انطلاقي، وأن أسعى إلى بصمة شعرية تميزني عن الآخرين، على أن أطالع دون كلل عشرات الكتب الحديثة والقديمة العربية والأجنبية. أما من وقف إلى جانبي من أدباء مدينتي، فلا بد من التأكيد هنا أن مِن أوائل من التفتوا إليَّ هو الشاعر الكبير عبد الوهاب اسماعيل فكتب مقدمة مجموعتي الشعرية (ومضات في وقت متأخر) التي صدرت أواخر عام 2011 ومع صدورها تناولها بالنقد الشاعر المبدع العزوف عن الأضواء الأستاذ سيف الدين جميل الذي ظل يتابع ما أكتب وما أنشر. وأشير هنا إلى أن أديبا كبيرا وقف إلى جانبي بعد أن قرأ عددا من نصوصي الشعرية وراهن على أن يكون لصوتي حضور شعري متفرد ودعاني إلى عدم الالتفات إلى المتشككين والطارئين، هو القاص المبدع شيخ السرد في الموصل الأستاذ أنور عبد العزيز، الذي طالما عُرف عنه تشجيعه للمبدعين الشباب، فتناول مجموعتي الشعرية الأولى بقراءة نقدية نشرت في أكثر من موقع وصحيفة. فيما نشر قصائدي في صحيفة (عراقيون) عن قناعة ومحبة المرواتي الدكتور عمار أحمد الرئيس السابق لاتحاد الأدباء فرع نينوى ، ودعاني نائبه المرحوم الأستاذ الشاعر عبد الله البدراني للتقديم إلى عضوية الاتحاد وأرسل أوراقي إلى بغداد وتابعها، فحظيت بترحيب أعضاء مجلس الاتحاد العام للأدباء العراقيين الذين كانوا ممن يتابعون ما أنشره من شعر هنا وهناك، فقرروا قبولي عضوا في الاتحاد. *يجد الشعراء أنفسهم ينجذبون لشعراء معينين وعبر إبداعاتهم يجدونهم قريبين منهم فمن من الشعراء تأثر الشاعر حارث معد ..؟؟ - لم أتأثر بشاعر دون سواه ، فلقد قرأت لشعراء من فترات مختلفة وتوقفت كثيرا عند شعراء التفعيلة خاصة جيل الشاعر الكبير بدر شاكر السياب ، والجيل الذي بعده، فيما مر بي شعراء لا يلفتون الانتباه ولا وزن لهم في المغايرة والتأثير.. أبرز من لفت انتباهي : السياب، البياتي، أحمد عبد المعطي حجازي ، صلاح عبد الصبور، محمد عفيفي مطر، أدونيس، معين بسيسو، خليل حاوي، نزار قباني.. ومن بعدهم: سليم بركات، أمل دنقل، معد الجبوري، عبد الوهاب اسماعيل .. والعديد من الأسماء الأخرى .. لكنني توقفت كثيرا عند محمد الماغوط كشاعر يكتب قصيدة النثر بحساسية و واقعية، فتأثرت به وأظن أنني مثله في بحثي الدائم عن الجديد المبتكر. * همك الشعري، كيف تُحدد بإيجاز أبعاده الفنية ؟ - بإيجاز شديد، أنا أحاول اقتناص الصورة الجديدة ومنح أوسع مساحة للخيال مبتعدا عن المتداول والشائع والتقليدي من الصور والتراكيب ، دون حذر من أي مفارقة قد تواجهني، مع حرصي على البصمة المحلية العراقية والعربية الخاصة، فالهوية الخاصة هي العالمية بعينها على أن تتنفس في جوها المتفرد. *أنت تكتب كما نعرف قصية النتر وهناك أدباء لا يعترفون بقصائد النثر أصلا، ربما لأنها كائن حديث الولادة لا يمت بصلة لتاريخ الشعر العريق فما هو رد الشاعر حارث معد..؟؟ - معظم كتاب الشعر العمودي التقليدي وشعراء التفعيلة يعتبرون قصيدة النثر مجرد خواطر تفتقر إلى الحساسية الشعرية، أو ربما لأنها لا تخضع للإيقاع أو أوزان الشعر المعروفة، ولأسباب أخرى لا يتسع المجال هنا للخوض فيها.بالنسبة لي اعتبر قصيدة النثر رسالة إنسانية. وتعبير عن تجربة حياة ملموسة من واقع مرير أو بهيج وهنا مساحة قصيدة النثر في التعبير كبيرة وتحتمل كلمات حداثوية تخرج على نطاق التقيد بالقافية أو آلإيقاع مما يتيح للشاعر التنقل بين الكلمات والمصطلحات العديدة بحرية أوسع ويبتكر إيقاعه الخاص ويتيح لخياله الخصب استيلاد الصورة الشعرية من رحم ما يملكه من وفرة مفردات لغوية .. لقد ظل الشعر العربي يجري على شكل تقليدي قرونا طويلة فهل نريد لشعرنا في عصر التكنولوجيا والعولمة أن يبقى كما هو دون الالتفات ألى متغيرات العصر ؟ وهنا ينبغي أن تقول: إن تطفل العشرات من الطارئين على قصيدة النثر ووضع خربشاتهم وخواطرهم الساذجة التي يكتبونها تحت لافتة ( شعر ) هو الذي أساء لقصيدة النثر ولمبدعيها. * أعلم أنك اندمجت بمدرسة الحياة وتركت التعليم الاعتيادي فما الذي قدمته مدرسة الحياة لتجربتك الأدبية ..؟؟ - إذا كنت أومن بمدرسة تمنح أعلى الشهادات، فهي مدرسة الحياة.. إن ساحة إبداعي الشعري والأرضية التي أقف عليها بثقة وشموخ، هي تجربة الحياة .. الحياة هي معلمي الدائم الذي لا أكف عن التعلم منه. إن كل من يعرفني شخصيا يعرف أنني أحيا تفاصيل حياتي بين الناس في الأوساط الشعبية بمدينة الموصل، ومحل عملي اليومي يقع في قلب المدينة ، وهو ملتقى للأدباء والفنانين من أصدقائي وأصدقاء والدي .. كل ما كتبت من قصائد ينهل ويغترف من أجواء عملي وحياتي اليومية وبعبر عنها.. وهذا لم يغب عن بال من كتبوا عن شعري، خاصة من يعقدون مثلي مع نبض الحياة وتوهجها صلة يومية حميمة وساخنة. * لماذا أنت بعيد جدا عن القصيدة الغزلية..؟؟ - لم تعد القصيدة تُصنَّف على وفق قياس ( أغراض الشعر )، فيقال هذه قصيدة مدح وتلك قصيدة هجاء وهناك قصيدة وصف وأخرى قصيدة غزل .. الخ لقد اندمجت الحالات كلها في القصيدة .. وعلى هذا الأساس، فالمرأة لها حضورها في قصائدي، وهو حضور يطغى على نماذجي الشعرية.. وتعلقي بالأنثى أو عناقي لها في نصوصي الشعرية، لا أسميه غزلا ، فهو أكبر من هذا التصنيف. شكرا للشاعر المبدع على هذا الحوار الشفاف و الصريح . حسين علي غالب
|