الاسبوع الذي شهد هجمتين اجراميتين من ذوات الاربعة عشر مفخخة، مصحوبة بهجمات تكميلية وعبوات، شهد الى جانب ذلك مناقشة النقابات في العراق قانون العمل المعد للتصويت والمصادقة خلال اسابيع، مع اللجنة العمالية في البرلمان،وكذلك قانون الحريات النقابية الذي تم فصله عن قانون العمل. الاختلاف حول مسودة القانون بلغ اشده واصرار البرلمانيين على فرض مسودتهم يزداد حدة، وتتضح المنابع الطبقية للاطراف المختلفة اكثر فاكثر، رغم محاولات اخفائها وراء عبارات " الوطنية" و "مصلحة العراق" وماشاكل، ورغم اسلوب النعومة والتعابير الاخوية والاحترام المتبادل اثناء الحوار. ورغم مرور سنتين على الحوار والتعديلات التي جرت وتجري على مسودة القانون، الا ان الهيأة المختصة بالعمل في البرلملن والمعروفة بـ لجنة العمل تعود لتطرح ما تريد تمريره في القانون مع اصرار على عدم التسامح في فقرة واحدة من 158 فقرة. في عاصمة تحترق ويقتل المئات يوميا، وفي بلاد تعيش حربا رجعية طائفية شرسة، ومجتمع مهدد بالانهيار، وسط كل هذا تكشف البرجوازية عن صلفها الطبقي بلا حياء، كعادتها، وترفض التنازل عن مثقال ذرة من مصالحها وتطلعاتها، رغم عدم حقانية ما تطالب به من تشريع حتى بمقاييس ليبرالية وحقوقية تدعيها هي. انها تعمل على تكريس قانون عمل صارم في عدائه للعمال، حتى وهي تعوم في محيط من التدفقات النقدية والفوائض المالية المهولة. القانون المعد مكتوب لتسهيل استثمارات الراسماليين واطلاق يدهم في تشديد العمل، الطرد الكيفي، منع حق الاضراب، الغاء الضمانات، وباختصار كل ما يشدد عبودية العمل المأجور ويطلق يد الراسماليين في مضاعفة الاستغلال وممارسة القمع. ولكن لماذا القانون الجديد؟ ولماذا هذا الصراع الماراثوني حول مسودة القانون؟ هل طالب العمال بالغاء القانون السابق؟ و ما هي الاضافات التي تعتبر خطوات الى الامام قياسا بالقانون السابق؟ ان ما يدفع ممثلي العمال من نقابيين وقادة عماليين للمشاركة في الصراع حول قانون العمل، هو اضافة او توسيع حقوق العمال في القانون، بينما نرى ان المختصين بقانون العمل الحالي من طرف البرلمان والقوى السياسية الحاكمة، اي ممثلي البرجوازية، تسعى لتضييق حريات وحقوق العمال المنصوص عليها في القوانين السابقة؛ سواء التي شرعت في عهد النظام السابق او ما سبقه. علما ان بعض القوانين قد شرعت في فترة تصاعد الحركة العمالية على الصعيد العالمي، الذي انعكس بصورة اتجاه تحديثي اصلاحي في المرحلة المبكرة من حياة النظام السابق اي مطلع السبعينيات، وكضرورة املتها تحالفاته مع دول المعسكرالشرقي الذي كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي. وعليه لا يعكس رفض القوى السياسية الحالي لقوانين النظام السابق ميل او نزعة لتوسيع الحقوق والحريات، بل العكس انها تسعى لتقويض والغاء كل مكتسب اصلاحي او مقبول في القوانين السابقة، واستبدالها بتشريعات جائرة تعزز موقع ومكانة البرجوازية في مواجهة العمال. ان التشريع واصدار القوانين هو تدعيم وتأسيس، او مأسسة، كما يسميها بعض الكتاب، البناء الفوقي الحقوقي للبرجوازية الذي يستند الى قاعدة الانتاج الراسمالي وعلاقات الانتاج الراسمالية، اي تحويل مصالح البرجوازية الى تشريع ملزم تستند اليه علاقات العمل في المؤسسة او المصنع، وتقف وراءه المحكمة ثم رجل البوليس فالسجان، او الجلاد في حالات غير نادرة. وبالتالي فان الاصرار على تشريع قانون عمل يحمي ويؤمن مصالح البرجوازية ضد الطبقة العاملة، هو جزء من متطلبات تأمين السيادة الطبقية للبرجوازية على العمال والمجتمع، وتشريع المصالح الطبقية والتقابل الطبقي المباشرفي قالب قانوني تحميه وتنفذه اجهزة الدولة الطبقية. ان الاصرار على فقرات ومواد القانون من قبل لجنة العمل في البرلمان العراقي، والاختلاف الحاد بشأنها، ليس منشؤه نقص في الثقافة القانونية، ليس جهلا باساسيات حقوق الانسان، ليس عدم فهم للـ " دستور"، ليس تجاوزا من البعض، ليس نزعة شرَانية او عدائية لدى قسم من السياسيين. انه عصارة الفلسفة الطبقية للبرجوازية التي تصوغها باقتدار عند تيسر مفكريها وعلمائها، وتصوغها بغريزتها الطبقية وبفضاضة عندما يقاد المجتمع من العشائريين والشيوخ والملالي والساسة الطارئين. وفي الحالين لا تتنازل البرجوازية عن سطر واحد من مخطوطة لوائحها التشريعية، وان تطلب الامر فستفرضها بقوة السلاح والاحتيال والنصب والتزوير والتلاعب واللصوصية والرشوة والابتزاز، اي كل الاساليب الدنيئة التي هي اساليب البرجوازية في حياتها اليومية ونشاطها في ادارة السياسة وادامة السيطرة على المجتمع. ان تشريع القانون بهذه الصورة، هو جزء من سياسة اقتصادية جديدة ترتكز على فرض اقتصاد السوق باشد اشكال النيوليبرالية التي تقوم على الخصخصة ورفع الدعم الحكومي والغاء الضمانات وتقليص العمالة في القطاع العام، اي بكلمة تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي. وفي هذا تسلك السلطة العراقية كشريك لصندوق النقد وممثل لسياساته الامبريالية الخطيرة والمدمرة، ولا تسلك كسلطة لها مسؤولية تجاه المجتمع. ان افراد الحكومة يتقاضون مبالغ مالية طائلة شهريا تحت عنوان رواتب من ثروة المجتمع، لقاء قيامها بخدمة صندوق النقد الدولي والاحتكارات ومعاداة المجتمع. ان الاتحادات العمالية التي اصبحت تفصل مواقفها اكثر فاكثر عن مواقف البرلمانيين، وتستبعد باستمرارمواقف النقابيين المساومين، وتتبنى خطابا ومواقف طبقية اشد وضوحا، هي خطوة جادة تحتاج الى بلورة اكثر وتقوية اكثر. كما ان التضامن العالمي لعب دورا جديا في دعم وتقوية مواقف النقابات العراقية التي تواجه مؤسسات السلطة. ان النقص الاخطر يكمن في منع وتشديد قمع التجمعات العمالية، واستمرار منع التنظيم في القطاع العام، بله الخاص ايضاَ كونه غير محمي امام ارباب العمل. والحال تتسبب هذه السياسات القمعية في تعطيل ومنع العمال من المشاركة في الاعتراضات الواسعة ضد سياسات السلطة المناهضة للعمال. وعليه ستكون احدى مهمات واولويات الحركة النقابية هي حشد الجموع المليونية من العمال للمشاركة في رسم مصيرها وتحديد الاطار القانوني لحقوقها وحرياتها. الى جانب مسودة قانون العمل، جرت صياغة مسودة الحريات والحقوق النقابية من قبل الاتحادات والنقابات في العراق، بعد ان جرى احباط مسودة تخص التنظيم النقابي، هي في الحقيقة تكريس وترسيخ لقوانين وقرارات النظام السابق. غير ان اللجنة البرلمانية قدمت منذ ايام مسودة للتنظيم النقابي في العراق تشدد قوانين النظام السابق التي تمنع التنظيم في القطاع العام وتقيده في القطاع الخاص. وبالتالي صار الصراع الان حول احباط والغاء المسودة الجديدة التي رفضتها النقابات كلية، في حين تصر اللجنة على مناقشتها واقرارها. والحال ان القانون الحالي الذي يكرس عبودية وخضوع العمال ومنع حق التنظيم، هو قانون ينبع من نفس ارضية واساس المصالح الطبقية التي كان يمثلها النظام السابق، والتي تشترك معه السلطة الحالية في تكريس الهيمنة والسيطرة على الطبقة العاملة. ان ديكتاتورية صدام ونظامه لم تكن ديكتاتورية شخصية نابعة من الخصائص الشخصية لصدام او لانصاره من اركان النظام السابق، انها نفس الفلسفة الطبقية التي يتركز جوهرها في السيطرة على الطبقة العاملة وسد الطريق امام تطورها الاجتماعي والسياسي، والانفراد بالاستيلاء على الثروة وتقاسمها واعادة توزيعها بين نخب وعناصر وقوى جديدة، ولكن المحتوى الاجتماعي يبقى واحدا، على الرغم من كل الفروق التي تبدو بين النظامين. ان الانظمة البرجوازية تختلف من حيث طبيعتها وشكلها بين ديمقراطية، قومية، اصلاحية، ملكية او جمهورية، ليبرالية او اسلامية او مسيحية او هندوسية، فاشية عسكرية او مدنية، ولكنها تشترك في استغلالها للطبقة العاملة وتكريس قمعها واستعبادها. ان السلوك الحالي للسلطات في العراق يعكس هذه الحقيقة بوضوح عندما يشرع قانون تنظيم نقابي يفوق في معاداته للعمال ما كان عليه قانون النظام السابق. ما هو المشترك بين منع التنظيم النقابي في القطاع العام ايام النظام السابق ومنعه من قبل النظام الحال؟ كان النظام السابق يرى في قطاع واسع منظم، رغم سيطرة النظام على التنظيم النقابي بصورة تامة، شكلا من عدم الخضوع للعسكرتارية الشاملة التي كان النظام يدير المجتمع بواسطتها، ومن جانب اخر فان التنظيم النقابي لا بد وان يمثل او يعكس مطالب عمالية يومية في وجه السلطة، وهو ما كان النظام ليعتبره شكلا من التعبير عن معارضة جماعية. كان النظام السابق رغم قيامه بخصخصة بعض المشاريع عام 1987الا انه كان يريد قطاعا عاما خاضعا. ومن جانب اخر، استولى النظام على مدخرات وارصدة العمال لعقود من السنين، عن طريق قرار تحويل العمال الى موظفين، حيث تمت تصفية او مصادرة ارصدة ملايين العمال عام 1987، وكان هذا احد الدوافع لقرارات النظام. اما السلطة الحالية فانها تسعى الى الخصخصة وتصفية الصناعات في البلاد، وفي حالة وجود نقابات فسيتم تنظيم حركة واسعة جدا بوجهها، وهذا سلاح بيد الطبقة العاملة تريد البرجوازية تجريدها منها. كما ان وجود نقابات عمالية واسعة ستقوى مواقع العمال الطبقية بوجه سلطة عبر عن فلسفة طائفية دينية، وتعمل على تصنيف العمال حسب الطوائف والاديان والقوميات وسائر التصنيفات العرقية. ان السياسة الاقتصادية الجديدة للسلطة وتوجهاتها السياسية، تريد طبقة عاملة منزوعة السلاح، بحيث تكون مهمة المستثمرين الطفيليين يسيرة في تحقيق الارباح بدون مواجهات ومصاعب، وهو حلم مستحيل طبعا، ولكنه يعكس الطبيعة الجشعة والعدائية للبرجوازية. انه صراع مباشر مكشوف بين ممثلي الطبقة العاملة وممثلي البرجوازية، ولكن الاحداث المأساوية التي يمر بها المجتمع يوميا واعمال القتل والتهجير، والتركيز الاعلامي والسياسي على جوانب الصراعات الطائفية والسياسية، يعتم على هذا الصراع الجوهري، الذي يعكس كل روح ومضمون السلطة في العراق كسلطة برجوازية، تستخدم ثروة المجتمع لبناء وسائل القمع المنظم ضد الطبقة العاملة، لمنع تطورها السياسي ولتمرير سياسات طبقية رجعية. رغم الانشطة التي تقوم بها الاتحادات العمالية والتضامن العالمي، الاان القادة العماليين وطليعة الطبقة العاملة مدعوون اكثر من اي وقت مضى لنقل هذا الصراع الى قلب المجتمع والحركة العمالية بحيث يصبح الصراع المحوري في السياسة بصورة واسعة، وتسليح العمال سياسيا وتنظيمهم لغرض مواجهة السياسات البرجوازية مباشرة.
|