لا أتعسَ من لوثة التسييس التي يمكن أن تصيب حياة الشعوب فتدمرها من الداخل، نعم، هذا مرضٌ ينخر البلدان ويحوّل الجماهير إلى قطيع ينعب وراء كل ناعب، مرض يسلب من الحاضر معناه ومن العقل حريته ويسجن الاثنين في الماضي.
خطر هذا في ذهني وأنا أتابع، بالأمس، لهاث الجهات المحركة للأحداث في مصر خلف تسييس رمزية حرب أكتوبر التي أنهت أسطورة اسرائيل التي لا تقهر؛ جهةٌ ترفع صور عبد الفتاح السيسي في الاحتفالات، وأخرى تحمل صور ضحايا الأحداث الأخيرة. هذا الطرف يروّج لفكرة أن الجيش الذي انتصر في تلك المعركة هو من يتصدى اليوم للدفاع عن الدولة بينما يروّج الطرف الآخر أن جيش اليوم لا يمتُّ بصلةٍ لشعبه بل هو يقتله بدل "الصهاينة". فكرة تسييس المناسبات الرمزية لخدمة تيارٍ ما أو توجهٍ معين ليس جديدا، فقد مارسته كلّ النظم الآيديولوجية، سواء كانت في السلطة أو المعارضة، ولدينا في العراق ما يمكنه تعمير ذاكرة مزعجة حولها ابتداءًٍ من تأسيس الدولة العراقية، إذ لم يُترك رمزٌ دينيٌّ أو تراثيٌّ أو وطنيٌّ إلا وسيّس خدمةً لحزب ما. علي الوردي يتحدث مثلا عن تسييس الشعائر الدينية بعد الاحتلال البريطاني للعراق من قبل الشيعة والسنة على السواء. فقد شاعت ظاهرة إقامة عزاءاتٍ ومواكب في جوامع الأعظمية مقابل إقامة مناقب نبوية في الكاظمية، وكانت تلك المظاهر تتحول لمهرجانات خطابية لا علاقة لها بالمناسبة. الأمر ذاته فعله الشيوعيون لاحقا حين استثمروا تلك الفعاليات لرفع شعاراتهم القريبة، في بعض أفكارها، مما نادت به الرموز الدينية كالمطالبة بتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الفقراء والأغنياء، وثمة، بهذا الصدد، حكايات بعضها طريف من قبيل تخبئة اللافتات والبوسترات في قدور الطبخ وتوزيعها لاحقا على ممارسي تلك الشعائر.
ليس بعيدا عن هذا ما فعلته دولة البعث السابقة عندما صهرت أغلب الرموز الدينية والوطنية والتاريخية المكونة لضمير الجماعات في بودقتها الأيديولوجية، والنتيجة أن رمزا لم يسلمْ من تلك البودقة، لا تاريخي كـ"نبوخذنصر"، ولا ديني كالحسين أو العباس، وبين هذا وذاك، بُعثَ سعد بن أبي وقاص من رقاده والقعقاع من غفوته، ثم هلهلت الخنساء حامدة الله على استشهاد بنيها الأربعة في القادسية. أما فيما يتعلق بالمناسبات الوطنية فإنّ العراقيين ليتذكرون جيدا عشرات الكتب والدراسات والأعمال الفنية التي أعيد من خلالها تصنيع صورة مفترضة لانتفاضة مايس عام ١٩٤١ بكل رموزها، مقابل تناسي أو محو لانقلاب ١٩٣٦ من ذاكرة التاريخ على اعتبار أن الأخير كان ذا طابع عراقوي بينما الأول عروبي. لا أودّ الحديث عن عبد الكريم قاسم، فهذا الزعيم أشهر من أن يشار له فهو لا يزال، حتى هذه اللحظة، مادة صالحة لتوليد الرمزيات المتعارضة عند أكثر من جهة سياسية وفكرية، وآخر صراع حوله كان جرى مؤخرا على خلفية تجريده بقرار رسمي من لقب "الشهيد" وهو ما أثار حفيظة محبيه فتظاهروا رافعين صوره.
هذا هو دأب الحركات المفلسة والأيديولوجيات الماكرة، ما إن يتجذر رمزٌ ما ويدخل نطاق الاشتغال عند جماعةٍ معينة حتى تعمد هذه التيارات إلى استثماره في أدبياتها وتقسره على الدخول في منظومتها التي عن طريقها تستميل الجمهور عاطفيا. المثال الأبرز في عراق اليوم هو "حلب" الرموز الدينية والإفادة منها في حيازة الشرعية، ولا يقتصر الأمر على الأئمة الأطهار بل يتعدى ذلك ليشمل بعض المرجعيات الثورية المعاصرة التي باتت من فولكلور الضمير الشعبي . ما جرى في مصر أمس ذكّرني بكل هذا، إذ هناك دائما من يريد اختطاف الحاضر والذهاب به لسجن الماضي، والمطلوب تحديدا هو حيازة الشرعية عن طريق التعكز على ذاكرتنا المقدسة. هو التسييس ولا شيء غيره، فيا ويلنا منه في العراق.. يا ويلكم منه في مصر.