كما ذكرت سابقا، القضاء يغص بالتقليعات والقفشات بما فيه الكفاية لإثارة روح النكتة والظرف في القضاة والمحامين والمشرعين. طالما سعدت وتمتعت بنكات عمي المرحوم محمد القشطيني، الذي مارس القضاء في العراق طيلة حياته وترأس محكمة التمييز (النقض والإبرام). اشتهر في مصر القاضي عبد العزيز البشري. درس الفقه والشريعة الإسلامية في جامعة الأزهر، لكنه لم يبخل على نفسه في التزود بالثقافة الغربية، فأصبح ملتقى البحرين؛ تراث الشرق وثقافة الغرب.
انعكس كل ذلك على سلوكه في الحياة. اعتاد، كبقية فقهاء المسلمين، لبس الجبة والعمامة. لكنه لم يعترض عندما سافرت بناته، بل ولبسن القبعة الأوروبية. وأكثر من ذلك لم يشعر بأي حراجة في أن يخرج مع اثنتين من بناته ويمشي معهما في شوارع القاهرة بهذه الهيئة. ولا شك أن ذلك كان منظرا يلفت الأنظار، تماما كما حصل لي عندما ذهبت لبغداد مؤخرا وخرجت مع أختي سلوى وهي محجبة. التفت أحد الصعايدة إلى ذلك المنظر: الشيخ عبد العزيز البشري لابسا العمامة يسير ويتحدث مع ابنتيه وهما تلبسان البرنيطة. فلم يتمالك المواطن الصعيدي غير أن يتمتم «شوفوا ده الشيخ يمشي مع بنات بالبرنيطة!».
أجابه شيخنا ومعلمنا الفاضل: «يعني عاوز إيه؟ عاوزهم همّا كمان يلبسوا عمة زيي؟!».
ولعمامة الشيخ البشري حكايات وطرائف كثيرة. التقت به امرأة عجوز أمية، كأكثر نساء مصر في تلك الأيام، وبيدها رسالة من ابنها الجندي في الجبهة لا تحسن قراءتها. لحقت به والتمست منه أن يقرأها لها. أخذ الوريقة من يدها وحاول عبثا أن يقرأ ما فيها من خط سيئ. اضطر أخيرا أن يعتذر لها قائلا: «آسف يا ولية، مش قادر اقرأ هذا المكتوب». نظرت في وجهه بدهشة واستغراب، وقالت: «وكل ها العمة الكبيرة على راسك ومش قادر تقرا سطرين كلام»!
فما كان منه غير أن نزع العمامة عن رأسه ووضعها على رأس تلك المرأة، ثم وضع الرسالة في يدها وقال: «هه!.. ياللا اتفضلي اقريها»!
وكما لعمامته من حكايات كانت لجبته أيضا حكايات وحكايات. حضر يوما إحدى الولائم ونزع الجبة وعلقها على الشماعة قرب الباب. جلس يلاطف ويمازح زملاءه، لكن واحدا منهم كان فنانا ورساما على ما يظهر حاول ملاطفته وممازحته بدوره، فانسل من المجلس واختلس طريقه إلى حيث علقت الجبة. ثم أخرج قلما غليظا ورسم قردا عليها، وعاد إلى مكانه.
آن موعد الانصراف من الوليمة، فخرج القاضي البشري ليلبس جبته وينصرف، فوجد هذا الرسم القبيح على الظهر منها. فنادى بأعلى صوته وعلى الفور ومن دون أن يشعر بأي امتعاض أو غضب: «مين ده اللي حط صورته على الجبة دي؟».
|