الوناسة: مفردة خليجية بصراوية الأصل تعني الاستمتاع البريء بالملذات المتاحة, وتعني البحث عن الأفراح والمسرات بمشاركة الأحباب والأصدقاء, فالخليجي يميل بطبيعته الفطرية إلى الابتعاد عن المنغصات ودوخة الرأس, يعشق الطبيعة البحرية, تنفرج أساريره في البادية ومضاربها, يهوى الصيد البحري (الحداق), يقضي اسعد أوقاته في الصيد البري (القنص), يمضي أجمل أيامه في الأهوار وعلى ضفاف الأنهار, يربي الصقور والطيور, يحب الأماكن النظيفة والثياب الأنيقة والعطور الزكية والأنغام الشجية والأطعمة اللذيذة. يكره الأماكن المزدحمة, لا يعتدي على احد, ولا يتطفل على احد, ولا يتسبب في إزعاج احد, ولا يغش أحد, ولا يحتال على أحد, لا تفارقه الابتسامة والبشاشة, واسع الصدر, طيب القلب, حسن التصرف في التعامل التجاري, منضبط في مواعيده, أمين مسالم خجول, وهذه هي الخصال العامة لسكان الخليج العربي كلهم من رأس البيشة إلى رأس مسندم, وبها عرفهم الناس, فكانت هي السمات, التي حققت لهم الانتشار في بحار الله الواسعة نحو مرافئ الهند والسند وزنجبار وجزر المالديف وسوقطرة, حتى وصلوا إلى تخوم جزر المالاوي, فكانوا موضع ثقة العالم حيثما ذهبوا وحيثما حطوا رحالهم. .
ثم جاءت نعمة النفط, فاتسعت وناستهم بالطول والعرض, وانفتحوا على العلوم والفنون والآداب, فازدهرت حياتهم, وانتعشت أحوالهم, فوجدوا وناستهم في الترحال والسفر والمأكل والملبس, وعاشوا في بحبوحة من المرح والسعادة, في ظل الخيرات الوفيرة والبركات الجليلة, حتى جاء اليوم الذي تورطوا فيه بولوج مستنقع السياسة الدولية, فخرجوا من خيمتهم الطبيعية الوارفة إلى مخيمات السيرك السياسي وضباعها الشريرة, وظهر عندهم جيل من الزعماء, خالفوا نهج الآباء, واقتفوا أثر البرامكة في البطر والتجبر والطغيان, فورطوا العباد في حروب ومؤامرات لا ناقة لهم فيها ولا جمل, واهتزت أركان حوض الخليج ومدنه بسلسلة من الحروب الساحقة الماحقة, فشهد العالم تداعيات حرب الخليج الأولى (Gulf War I), وحرب الخليج الثانية (Gulf War II), وحرب الخليج الثالثة (Gulf War III), ثم أصبح زعماء الخليج طرفا في العدوان على البلدان العربية والإسلامية, فطغوا بصنيعهم هذا طغيان عظيم. .
لم يخطر على بال الجن الأزرق أن الطائرات القطرية ستقصف المواقع العسكرية في باب العزيزية بليبيا ؟, ولم يخطر على بال ثعلب الصحراء (الجنرال روميل) أن قطر هذه الجزيرة الصغيرة الناتئة من رحم الخليج ستقفز في الجو لتحلق في سماء البحر الأبيض المتوسط, وتحط في الشمال الأفريقي فتنضم إلى قوات الناتو في هجومها على طرابلس ؟, شيء لا يصدقه العقل, ولا يقبله المنطق. . ولم يخطر على بال جنكيزخان أن القوات الإماراتية ستغادر الخليج محمولة جوا, وتحلق فوق المحيط الهندي لتهبط فوق جبال (تورا بورا) فتؤازر قوات البنتاغون في حربها ضد أفغانستان, وتسجل قفزة حربية في عالم الجحيم والدمار. . سألوا وزير خارجية الإمارات (عبد الله بن زايد) بعد عودته من أفغانستان, فقال: (أنا كنت في قندهار لاطمأن على قواتي), تخيلوا قواته التي يزعم انه بعثها إلى أفغانستان لمحاربة الإرهاب هناك, عاجزة أن تطلق رصاصة واحد لتحرير جزره التي استولت عليها إيران بالقوة منذ سبعينيات القرن الماضي, والتي لا تبعد عنه سوى بضعة كيلومترات. . بيد أن المفزع في الموضوع إن حوض الخليج العربي تحول بين ليلة وضحاها إلى قاعدة حربية جبارة تضم مجموعة من القواعد الحربية الفرعية, منتشرة من رأس البيشة إلى رأس مسندم, ومبتدئة بقاعدة (بوكا) في أم قصر, ومنتهية بقاعدة (مصيرة) الجوية في سلطنة عمان, مرورا بقواعدها في الكويت بمعسكر (الدوحة), ناهيك عن التسهيلات الحربية الأخرى, التي توفرها من حين لآخر قواعد (علي السالم الجوية), و(أحمد الجابر الجوية), ومعسكر (عريفجان), إلى البحرين حيث مقر الأسطول الحربي الأمريكي الخامس في المنامة, آخذين بنظر الاعتبار تخلي دوريات الأسطول عن حماية سواحل البحرين في الأزمات, وهو تصرف يبعث على الريبة ويلقي بظلال الشك على خططه, ثم ننتقل إلى قطر حيث مكامن الخطر, التي تضم أكبر القواعد الأمريكية الحربية في الشرق الأوسط ممثلة بقاعدة (العديد) الجوية, ومعسكر (Snoopy), وقاعدة السيلية, وننتقل إلى الإمارات حيث توجد فيها قاعدة جوية ومستودعات أمريكية متعددة الأغراض, بالإضافة إلى التسهيلات التي تقدمها قاعدة (الظفرة) الجوية, وتتمدد القواعد إلى عمان فتظهر لنا قواعد (المسنة), و(التمريات), و(مصيرة) الجوية, وتسهيلات موانئ (قابوس وصلالة), بينما نأت السعودية بنفسها خارج مديات هذا التهافت العجيب نحو إقامة القواعد الأمريكية, ولا يوجد فيها الآن أي تشكيل عسكري أجنبي. . أحيانا تكون الوناسة قريبة جدا من التهتك والانحلال والتفسخ, ولسنا مغالين إذا قلنا إنها تقع فريسة لارتكاب الفواحش (أعزكم الله), وليس أدل على كلامنا هذا من تصريحات قائد شرطة دبي الفريق ضاحي بن خلفان, وعزمه الحقيقي على مكافحة تفشي الزنا, ومن نافلة القول نذكر إن عدد اللواتي يمارسن الدعارة العلنية والسرية في إحدى دول الخليج زاد على عددهن في عشر دول أوربية, فالدعارة لها وجوه عدة في فنادق الدرجة الأولى, وفي البلاجات المفتوحة, واليخوت الفارهة. .
يقول ضابط الموساد الأسبق (غوردون توماس) في كتابه (جواسيس جدعون Gideon's Spies), الذي يستعرض فيه التاريخ السري للموساد من التأسيس إلى التدنيس, يقول: (ما كان لإسرائيل أن تحقق انتصاراتها في المنطقة لولا تضامن زعماء العرب معها), والأنكى من ذلك كله إن القناة التجارية الثانية في التلفزيون الإسرائيلي اختارت رئيس الموساد السابق (مئير دوغان) كأفضل إسرائيلي لعام 2009, وقالت عنه: انه الرجل الذي اشتهر بقطع رؤوس الفلسطينيين بنفسه, بيد أن الملفت للنظر إن الصحافة الإسرائيلية تحدثت بوضوح عام 2003 عن علاقاته الحميمة مع أشهر زعماء الأقطار الخليجية, وكيف كان يرتبط معهم بعلاقات علنية وسرية, وكانوا (كرماء) جدا معه, فأغدقوا عليه الهدايا والعطايا والهبات, وكانت معظم هداياهم عبارة عن سيوف مرصعة بالذهب والأحجار الكريمة, فخصص لها جناحا خاصا في مكتبه بتل أبيب, وكان حريصا على عرضها على أصدقائه المقربين, موثقا تاريخ استلام كل هدية, واسم الزعيم الخليجي الذي أهداها له, والمناسبة الدامية التي استحق عليها الهدية, وتجدر الإشارة إن (مئير دوغان) تمكن منذ تسلمه مهام عمله عام 2002 من اختراق العديد من العواصم العربية. . اما على الصعيد التجاري فقد لعبت الموانئ الخليجية دورا رياديا في تعزيز حركة التبادل التجاري, فوجدت إسرائيل نفسها خارج حلبة التنافس على خلفية إجراءات المقاطعة, التي تبنتها الأقطار الخليجية في السابق, لكنها وجدت لها الآن أكثر من منفذ, فاقتحمت السوق الخليجية بواجهات تجارية مزيفة, حتى صارت لها قواعد ومراكز في الخليج, في حين تفوقت الشركات الأجنبية على العربية فاكتسحتها من السوق الخليجية ولم يعد لها وجود إلا في النشاطات الضيقة. .
اختفت الوناسة الحقيقية من مدن الخليج, واختفى معها الإنسان الخليجي نفسه, وصار من المتعذر العثور عليه وسط هذا الزحام الكثيف من الأيدي الأجنبية العاملة الوافدة إلى المنطقة, حتى بلغت نسبة السكان الأصليين (25%), وانخفضت هذه النسبة في الإمارات فهبطت إلى (15%) في تركيبتها السكانية المُخترقة المُنتهكة, بينما استحوذت العمالة الأجنبية على النسبة العظمى, فكل مواطن إماراتي يقابله عشرة وافدين, ما يعني إن اللغة الأوردية باتت هي اللغة الأولى, وإن العرق العربي أصبح مهددا بالزوال في عقر داره, وبات من المؤكد انه سيخسر ثقافته, ويفقد عاداته ويودع تقاليده, ونخشى أن يأتي اليوم الذي يكون فيه مصير إمارة (دبي) مثل مصير جزيرة (فيجي) عندما آلت فيها السلطة إلى الهنود الوافدين إليها, وتحول سكانها الأصليين إلى رعايا لا حول لهم ولا قوة, في ظل الديمقراطية التعسفية, التي فرضتها عليهم القوى الدولية لصالح الأغلبية التي يمثلها الهنود. .
ولابد لنا أن نتساءل في الختام: من هو المسؤول عن ضياع الخليج وتدميره ؟, والمسؤول عن فقدانه لهويته العربية ؟, والمسؤول عن اضطراب أمنه القومي ؟, والمسؤول عن تعاسته, وغيرها من الأسئلة المصيرية المؤلمة, والتي ليس لها سوى جواب واحد, وهي إن الكيانات الحاكمة المتخمة, الباحثة عن نزواتها, الغارقة في ملذاتها, هي التي فصمت علاقتها بالماضي, وفقدت صلتها بالمستقبل, وسلمت الخليج إلى غير أهله, وهي التي جلبت له الهم والغم, ورمته في براكين النزاعات الدولية التي لا دخل له فيها, وهي التي نقلته من نعيم الوناسة إلى جحيم التعاسة. . والله يستر من الجايات
|