بحث للمنبر الحسيني- اليوم السادس من محرم - البصيرة في القران الكريم... الشيخ عبد الحافظ البغدادي الخزاعي

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبُ يعقلونَ بها أو ءاذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) الحج 46

                  حين تذهب لشراء قطعة من القماش تفرك القماش بلطف بين أناملك، فتستطيع أنْ تُميِّز الجيد منه  من السيئ .. أو إذا كان صوف أو قطن .. من الرقيق، مع أن الفارق بينهما لا يكاد يُذْكَر من ناحية اللون والشكل .. غير أن الملمس له تركيز على معرفة النوع بشكل مهني وعقلي ... فبأيِّ حاسة أدركْتَه؟ إنها حاسة اللمس التي تنقل ملمس القماش للعقل , فيأتي القرار من العقل بتصنيف جودة ذلك القماش ... والثانية هذه اللمسة يراد منها  تحقيق مصلحة المشتري  للنوع الجيد الذي يفي الغرض ...

 كل ما يدركه الإنسان  من الأشياء بوسائل الإدراك يتدخَّل العقل ليغربل هذه المدركات، ويختار من البدائل ما يناسبه، فإنْ كان سيختار ثوباً يقول: هذا أنعم وأرقّ من هذا، وإنْ كان سيختار رائحة يقول: هذه ألطف من هذه، إنْ كان في الصيف اختار الخفيف، وإنْ كان في الشتاء اختار السميك.

وبعد أن يختار العقل ويوازن بين البدائل يحكم بقضية تستقر في الذِّهْن وتقتنع بها، ولا تحتاج لإدراك بعد ذلك، ولا لاختيار بين البدائل، وعندها تنفذ ما استقر في نفسك، ومال أليه قلبك. إذن: إلادراك بالحواس والتمييز بالعقل ... أما القضايا المصيرية فللقلب دور كبير في اختيار الموقف من القضايا المصيرية , مثل مصلحة الأبناء والعائلة والمصلحة الشخصية ... غير  إن للأهواء دور تمنع قرارات القلب أحيانا ، فتكون  القرارات المهمة التي تهم الإنسان في حياته ويعد مماته ، تأتي من العاطفة والشهوات ، حيث يموت القلب والعقل ، حتى لو كان الإنسان يصلي ويصوم ويخرج الحقوق الشرعية ... ولكن قراراته بدون بصيره .. فما هي البصيرة..؟؟..

          معنى البصيرة : عقيدة القلب عقيدة الإنسان ، دينه وفكره  ، كل المنظومة الفكرية الإسلامية ، يقابلها كل المنظومة الشيطانية { شياطين الأنس والجن} هنا قوة القرار ، هنا النجاح أو الفشل ، الموت والمصير إلى جهنم , أو النعيم الدائم وجنة عرضها السماوات والأرض , كلها تأتي من البصيرة ..!!!.

         يقول الإمام الصادق  {ع} عن العباس بن أمير المؤمنين عليهما السلام :" كان عمي العباس نافذ البصيرة" أي عالما بما يريده ربه منه ....فالبصيرة... هو إن نشاهد نتائج أعمالنا,  هل تتوافق مع شرع الله ورسوله {ص}  أو نحن في حالة انتقاء نميل مع مصالحنا ، وحين تتضرر المصلحة من حكم شرعي او موقف معين ... اترك القران وأخالفه واعمل بما تمليه شهواتي ومصالحي الدنيوية .... هذه نقطة مهمة نعرف فيها أنفسنا ، هل نتوافق مع شرع الله او شرع مصالحنا ...كل هذا نعرفه من خلال البصيرة ، ومن هذا الطريق يسير الناس بين خطين مختلفين هو الذي يشاهد الأشياء كلها ظاهرها وخافيها بغير جارحة (آلة البصر ).

  فالبصيرة  تعني التمييز بين الحق والباطل . وذو بصيرة أي وعلم وخبرة . بصرت بالشيء : أي علمته فأنا بصير ,وأبصرته برؤية العين . التبصر : التأمل والتعرف . ونقول فلان مستبصر أي ظهرت له الحقيقة ... 

بعد هذه المقدمة نعود إلى أجواء الآية المباركة ..يقول تعالى "  (أفلم يسيروا في الأرض } هذا استفهام يدل على استنكار لمجموعة من يرى ما فعل بمن هم قبله ولا يعتبر ولا يتأثر , أي أولم يسير قومك يا محمد في الأرض اليمن والشام أثناء أسفارهم للتجارة أوغير ذلك { فتكون لهم قلوبُ يعقلون بها } لان بعض الناس حتى لو تعرض إلى موقف يستوجب أن يحرك عقله فانه يتعمد تجميد عقله ,حين تدركه رغبة الشهوة لا يتمكن أن يفلت منها .... كان هناك رجل يعمل جزاراً كل يوم يأخذ الماشية ويذبحها كل يوم على هذه الحال وفي يوم من الأيام رأى امرأة في الشارع مطعونة بسكين فنزل من سيارته ليساعدها وأخرج السكين منها ثم أتى الناس ورأوه فاتهموه أنه هو الذي قتلها وجاءت الشرطة لتحقق معه فأخذ يحلف لهم بالله أنه ليس الذي قتلها لكنهم لم يصدقوه فأخذوه ووضعوه في السجن وأخذوا يحققون معه شهرين ولما حان وقت الإعدام قال لهم : أريد أن تسمعوا مني هذا الكلام قبل أن تعدموني , لقد كنت أعمل في القوارب قبل أن أصبح جزاراً أذهب بالناس في نهر الفرات من الضفة إلى الضفة الثانية وفي أحد الأيام عندما كنت أوصل الناس ركبت امرأة جميلة قد أعجبتني فذهبت لبيتها لأخطبها لكنها رفضتني وبعد ذلك بسنة ركبت معي نفس المرأة ومعها طفل صغير وكان ولدها , فحاولت أن أمكن نفسي منها لكنها صدتني وحاولت مراراً وتكراراً كانت تصدني في كل مرة فهددتها بطفلها إذا لم تمكنيني من نفسكِ سأرميه في النهر ووضعت رأسه في النهر وهو يصيح بأعلى صوته لكنها ازدادت تمسكاً وظللت واضع رأسه في الماء حتى انقطع صوته فرميت به في النهر وقتلت أمه ثم بعت القارب وعملت جزاراً , وها أنا ألقى جزائي أما القاتل الحقيقي فابحثوا عنه....هذه القصة تبين إن الإنسان يعرف انه على خطأ ولكن مصالحه الشهوانية هي التي دفعته للتصرف ضمن عقيدة الشيطان ...

            ولكن هل اعتبر غيره من قصته ...؟؟ وهل اتعظ الآخرون إن الله تعالى { يمهل ولا يهمل} وان العاقبة السيئة تنتظره ..؟   نهم الناس  يعلمون بما حولهم و ما يرون من العبر ويعقلون بقلوبهم ما نزل بمن كذب قبلهم { أو ءاذان يسمعون بها } يسمعون أخبار الأمم السابقة التي كذبت الرسل ، والمجرمون الذين ركبوا منهج الشيطان .. فالناس لهم حواس تجلب لهم المعلومة رغم إنهم لم يشاهدوا الحادثة, فالعين إحدى الحواس الناقلة والإذن كذلك حاسة ناقلة ... فما سمعوه يستدعي الاعتبار واخذ الحيطة والحذر ... ولكن حين يعصي الإنسان ربه ويكرر نفس الأعمال التي سببت إزالة النعمة ونزول البلاء ، هذه يقول عنها القران الكريم { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } ...ورد عن الرسول الله {ص} قوله : في معرض ذكر هذه الآية :  { ليس الأعمى من يعمى بصره , ولكن الأعمى من تعمى بصيرته }  

الذي ورد فيه الاستفهام الاستنكاري في بداية الآية المباركة ... تفسر السبب الذي جعل البعض ممن رأى أو سمع  ما جرى على الأمم السابقة التي كذبت بآيات الله فعاقبهم وترك آثارهم واضحة ومدنهم شاخصة حيث أن سبب عدم ، الاعتبار ليس هو عمى العين ولكن السبب هوعمى بصيرة القلب وانطفاء نوره بسبب حب الدنيا وإلا فبعض من فقد بصره تجده عارفاً بالحق وحافظاً للقرآن وعابداً لله أفضل من المبصر . وقوله تعالى :{التي في الصدور } أي الأمور الباطنية في الإنسان ، فأحيانا  يتحدث الإنسان بشيء يتبين منه طيب السريرة ولكن في قلبه غايات يريد أن يمررها بمثل هذا الكلام ، هذا هو معنى تعمي القلوب التي في الصدور....

        من هذه الأمثلة اذكر قصة عن الخلفاء الاموين . كان الوليد وليا للعهد أثناء خلافة هشام آخوه  .  وكان مكرما عنده ولكنه في سريرة نفسه يريد إزاحته من الخلافة من بعده  وعقد العهد لابنه مسلمة ... فلواه الحج ليظهر فسقه بالحرمين أمام الناس , فيسقط  لان الوليد معروف بشرب الخمر ، وحتما سيشربها في موسم الحج ... فحج الوليد وظهر منه فعل  مذموم كثير .. حيث تشاغل بالمغنين وبالشراب ولم يحج  بل أمر مولى له فحج بالناس ...  فدعا هشام الناس إلى خلعه والبيعة لمسلمة ولده ، وكان يكنى أبا شاكر ـ . 

 فكتب هشام إلى الوليد : إنك ما تدع شيئا من المنكر إلا أتيته وارتكبته غير متحاش ولا مستتر . فليت شعري ما دينك يا رجل ,,..؟  أي أوقعه في مكيدته وما يريد أن يفعله لأجل ولده ... فكتب إليه الوليد ـ معرضا بابنه مسلمة ـ 

أيهــا السائل عـن ديننــا * نحــن على دين أبي شاكر 

نشربها صـرفا وممزوجــة * بالســـخن أحيانا وبالفاتر .

 ومن طريف ما يرويه  الطبري عن الوليد أثناء توليته الحج انه عندما ولاه هشام الحج في عام 119 هـ حمل « معه كلابا في صناديق . فسقط منها صندوق  كما يروي  الطبري  عن شيوخه من المؤرخين  يقول سقط الصندوق  عن البعير وفيه كلب , وحمل الوليد معه قبة عملها على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة ,وأراد أن ينصب القبة على الكعبة ويجلس فيها يعاقر الخمر  فخوفه أصحابه وقالوا لا نأمن الناس علينا معك .فلم يستعملها ... هذا نوع من الاستخفاف بالمقدسات والشعائر الدينية ..  ومن أقذر ما يؤثر عن الوليد أنه عندما سمع بنعي هشام وبلغه خبر موته ، فرح فرحا شديدا رغم انه أخاه ـ على ما يذكر المؤرخ ابن شبة ـ قال « والله لا تلقين هذه النعمة بسكرة قبل الظهر.. 

            هذه صور التاريخ تبين إن الحواس الظاهرية ليست ذات أهمية ...فكما أن حواس الإنسان الظاهرية تصبح معطلة وغير قادرة على أداء وظيفتها الإنسانية ، والحال الآن يمكن الاستعانة أثناء المسير بالعصا أو الكرسي ، أو تركيب أطراف للجسم وعدسات للعين ـ ولكن حين يفقد الإنسان بصيرته يصاب بالعمى الحقيقي ويصبح كالأنعام بل أشر وأدنى منها , قال تعالى في بيان ذلك :{ أن شر الدوابِ عند الله الصم البكم الذينَ لايعقلونَ }  كثير من الناس يقفون موقفا  سيئا وهم يحبون تلك الجهة ويقدسونها ويحترمونها ، ولكن لا توجد عندهم بصيرة تميز الحق والباطل ... فالذين قتلوا الحسين {ع} يوم عاشوراء  لم يكونوا كفارا ، ولم يتركوا الصلاة ولا الصوم ولكنهم بدون بصيرة .. ولأذكر لك موقفا لثبث بن ربعي في يوم عاشوراء ... من عادة العرب حين يخرج مقاتل للقتال ينزل أليه الكفء منه ، وهذا جرى في يوم بدر حين رفض شيبة وعتبه مقاتلة بعض المغمورين  من العرب .. فكان أصحاب الحسين {عليهم السلام} حين ينزلون الحرب يتقدم لهم بعض الناس ، فأكثروا القتل فيهم .. فنادى ثبث بن ربعي  بأصحابه ... " ويحكم من تقاتلون ، تقاتلون أهل مصركم ْ وأصحاب البصائر وقوما مستميتين ، والله إن قاتلتموهم مبارزة لآتوا عليكم " فقالوا له ما نصنع ...؟ قال : حرضوا الناس إن لا يخرج لهم رجل لرجل ... هذه صورة للبصيرة في كربلاء وهي مهمة أن نأخذ منها العبرة ، فالمقتول هو منتصر رغم موته ، بينما الحي يقول عن القتيل " إنهم أصحاب بصائر " أي يعرفون الحق فيتمسكون به ، بينما أهل الكوفة يتمسكون بالمال والحياة الفانية ...

          هذه مقارنة  واضحة للعيان ... كان يمكن لأصحاب الحسين {ع} أن يتركوه كما تركه غيرهم ، ويسلمون من الموت وذهاب المال وترميل النساء ويتم أبناءهم .. ولكن البصيرة تحدد موقف الإنسان فتجعله يستهين بكل هذه الشهوات وترتقي روحه إلى أسمى هدف هو رضا الله تعالى ... لذلك يصف القران احد الطرفين بأنهم حيوانات  بل أسوء من الحيوان { كالأنعام بل أضل }.. ويتحدث عن فئة أخرى يمدحهم لأنهم أصحاب مبدأ  {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا* ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما} , الناس جميعا من خلقة الله ، ولكنه فضل بعضهم على بعض  ، ليس من عنده بل من الإنسان نفسه , هذا كالإنعام بل أضل وذاك صادق وثابت في قوله لا يخاف إلا الله تعالى.. 

   هنا يأتي سؤال ... كيف أصبح هذا الإنسان أسوء من الدابة الحيوان , وذاك يبيع ويشتري مع الله ..؟؟ 

 قد يقول احد انه بالعلم والمعرفة .. الجواب كلا فربما يكون المتعلم أسوء من الدابة بل أضل ..اذكر لك مثلين مما يعانيه المجتمع ، أحيانا ترى سائق سيارة يستغل ضرف الناس فيزيد الاحرة بسبب تلك الحالة ... مثل أيام العيد أو الزيارات الكبيرة . أو الذي يريد نقل مريض خطر .. يستغل السائق ذلك الموقف لعلمه أن المقابل مضطر ويدفع المبلغ .... هذا ربما لا يحمل شهادة وليس مختصا بالعلوم الإنسانية ... ولكن ما رأيك في طبيب  يستغل مرض الناس وحاجتهم أليه فيرفع سعر الكشف على المرضى ويتفق مع صاحب صيدلية يبيع له دواء معين ليس فيه فائدة للمريض  فأشرك الصيدلاني في العبادة للمادة ... هذان يحملان شهادة أكاديمية عليا .. أو قاضي يرتشي أو محامي يدافع  عن مجرم ... وهكذا  , إذن ليس العلم ولا الجهل هو سبب التقرب إلى الله ..

        ولا الفقر ولا الغنى ولا العافية أو السقم ... كل هذه الأمور ليس لها علاقة بتحديد شخصية الإنسان وقربه إلى الله واستقامته  ، إنما الذي يرسم الشخصية هي البصيرة .. فلان تعطلت بصيرته فلا يدرك بها الحق ولا يعترف انه يظلم الناس بل ذلك حق من حقوقه  ..!!  هؤلاء يقول تعالى عنهم : "ولقد ذرأناَ لجهنم كثيراً منَ الجنّ والإنس لهم قلوبُ لا يفقهونَ بها ولهم أعيُنُ لايبصرونَ بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلُ أولئك هم الغافلونَ) 

  إذن البصيرة هي عين العقل ..... جاء عن الإمام الصادق {ع} بيان رائع وعميق يصف به العقل بقوله : 

(دعامة الإنسان العقل ,  وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره , فإذا كان متمسكا بالنور كان عالماً حافظاً ...وعرف من نصحه ومن غشه , خلص الوحدانية لله والإقرار بالطاعة ....  هذا يعني إن النور يأتي من خلال العقل والفهم للقران والحديث النبوي الشريف والأئمة المعصومين {ع}  يقول : الإمام الكاظم عليه السلام :(تفقهوا في الدين فإن الفقه مفتاح البصيرة , وتمام العبادة , والسبب إلى المنازل الرفيعة ,في الدين والدنيا , وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب , ومن لم يتفقه في دينه لم يرضى الله له عملا ...." 

ورد في مناجات أمير المؤمنين {ع} (الهي هب لي كمال الانقطاع أليك , وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك , حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة ". وللإمام علي {ع} كلمة عظيمة .. يقول عن  أهمية  البصيرة نظر البصر لا يجدي إذا عميت البصيرة ...وعنه عليه السلام : ليست الرؤية مع الأبصار فقد تكذب العيون أهلها , ولا يغش العقل من استنصحه .....فقد البصر أهون من فقدان البصيرة............

أسباب التذبذب في دين الله وعدم الثبات على موقف  الحق رغم معرفتنا به :

 ظاهرة التذبذب وعدم الثبات والاستقرار عند حد معين من الالتزام بالدين، والبقاء في صعود وهبوط، ومد وجزر، ظاهرةٌ  واضحة في هذا الزمان، إذْ نرى البعض من الناس يهتدي وتُلاحَظ عليه علامات الهداية وحرص  على الفرائض، وتمسكه بالسنة، وابتعاده عن قرناء السوء، وعن مقارفة الآثام، وسرعان  ما يلبث أن تمر عليه فترة  فيبرد في إيمانه، ويهزم في استقامته، ويعود إلى ما كان عليه، بل يعود بعضهم إلى أسوأ مما كان عليه. هذه الظاهرة هي ظاهرة مَرَضية، وهي خطيرة جداً، ينبغي للإنسان أن يحذرها، وأن يتجنب الوقوع فيها لعدة أسباب:... 

هذا قسم والقسم الآخر , إذا محص بالبلاء قل الديانون , مجرد إن يقع تحت ظلم ظالم وحاكم يحارب الدين .. سرعان ما ترى ذلك المؤمن بالله ورسوله وأهل البيت {ع} يتلون بلون طاغية زمانه , هؤلاء يصفهم الحسين بن علي عليهما السلام في خطبة يوم عاشوراء " فأصبحتم ألبا لأعدائكم على أولياءكم بغير عدل افشوه فيكم , ولا أمل أصبح لكم فيهم ... يعني تؤلبون ضد أئمتكم وتحاربوهم  وتناصرون عدوهم رغم باطلهم وعدم وجود أمل في حقهم  ..! ...كيف تحدث هذه الظاهرة ...؟ مقدمة هذه حدثت يوم السقيفة حين تحزب الأنصار لجانب اصطحابهم والمهاجرون لصالح أصحابهم .. وكلاهما لم ينصرا الحق الذي جاء من الله ورسوله ...

السبب الأول: حسن العاقبة : فإن الإنسان لا يدري متى يموت، وقد يهتدي ويلتزم ثم يتراجع عن دينه وثوابته ... يطول أمله . وفجأة يأتيه الموت ، فيموت في ساعة سيئة من حياته ويخسر دنياه وآخرته .. هو كان يعيش طول حياته متمسكاً بطاعة الله، ثم في لحظة من لحظات الطمع أو الخوف يتراجع عن ثوابته الحق فتأتيه مَنِيَّته في هذه اللحظة فيُخْتم له بسوء الخاتمة فيخسر دنياه وآخرته، وهذه خطيرة جداً...

كان من دعاء النبي {ص} يقول: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة). وهذا معنى حديث النبي {ص} الذي يُفْهَم عند كثير من الناس الجهلة -الذين يصطادون في الماء العكر- فهماً مغلوطاً، الحديث الصحيح يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذارع، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)  يذكر البخاري بعضا من أقوال الصحابة حين نزل بهم الموت... ما نزل  بعمرو بن العاص  قال له ابنه: يا أبتي أنت كنت تقول: إنني لأعجب من رجل نزل به الموت ومعه عقله ولسانه كيف لا يصفه؟ فقال: يا بني: الموت أعظم من أن يوصف، لكن سأصف لك منه شيئاً، والله لكأن على كتفي جبال وضوى وتهامة، وكأني أتنفس من سم إبرة، ولكأن في جوفي شوكة عوسج، ولكأن السماء أطبقت على الأرض وأنا بينهما.  هذه صورة واضحة عن صحابي ... ولا أريد أن أقارنه بإمام المتقين , ولكني أتشرف أن اذكر أخر لحضته من الدنيا حين لامسه سيف ابن ملجم قال فزت ورب الكعبة .. وفي ليلة شهادته كان يغشى عليه من الألم وارتفاع السم فسمعه أبناءه يقول :" رفقا بي يا ملائكة ربي , فلمثلها فليعمل العاملون"  

 ، حسن الخاتمة أمر هام، وقضية الثبات متعلقة بحسن الخاتمة.عبد الله بن جحش  احد أصحاب النبي {ص} ومن المهاجرين الأوائل قبل الفتح .. شارك في السرايا الأولى التي حافظت على امن المدينة وكان  بمنصب أمر سرية ... شارك في معارك  بدر واحد وحضر الخندق .. ثم ارتد وهرب من المدينة وأصبح نصرانيا ويقال مات وثنيا , هنا في قلبه استعدادات للتغيير والتلون . ومثله ابن زياد كان من الموالين لأمير المؤمنين {ع} حتى نصبه الإمام على بعض مدن إيران .. ولما استشهد الإمام  في الكوفة كان ابن زياد في إيران . وقد هدد معاوية بالحرب , وبمجرد أن أرسل له معاوية رسائل واستماله إلى باطله  , لبى طلب معاوية وأصبح من اشد الحاقدين على شيعة أمير المؤمنين {ع} وقتل منهم مقتلة عظيمة وشتم الإمام على المنابر . وهو سبب قتل حجر بن عدي الطائي وأصحابه  ,,  يذكر القران قصة السامري ولم يذكر اسمه . لان السامري سيتكرر مع الزمان ، وفي كل جيل سامري يبحث عن منصب وجاه رغم تدينه ومرافقته للنبي موسى{ع} .... 

يقول النبي {ص} في الذين يتعهدون للناس في أمر ويقسمون عليه ثم يرتدون عنه لأجل مصالحهم "لا ذمة لمن أعطي بي عهدا وغدر" والعهد مأخوذ من تعهد وهو حفظ الشيء ورعايته وهو نوع من العقود وواجب تكليف ... ولتوضيح العهد نقول إن العهد ينقسم إلى عدة أنواع ... عهد وفاء .. أوفوا بالعهد... وعهد ضمان كالذي يتكفل شيء معين  ..وعهد أمان , حين يعطي الحاكم أماناَ للناس في خلاف أو قتال معين عليه أن يلتزم بعهد الأمان   وعهد وصية في موضوع معين ... وعهد محبة وتعاون .. يقول الناس عادة في العهود " اقسم بالله العظيم ... أو علّي عهد الله أن أكون كذا وكذا ... وهي احد العناوين التي ذكرناها .. فان اخل بها فلا ذمة لله به ... معنى الذمة هي الاستجارة  والحماية والتعهد وحين يخرج الإنسان من ذمة الله فلا يحميه ولا ينصره ولا يجيره ... لذلك أطلق الإسلام على غير المسلمين أهل الذمة ....

السبب الثاني في عمى البصيرة :.. كثرة الثقافات والأفكار الغربية الطارئة

          نحن نعيش في زمن زالت فيه الحواجز بين الأمم وبين الشعوب واختلطت الثقافات، وأصبح العالم مكشوفاً بفضل الاتصالات , يستطيع الإنسان وهو في غرفته وعلى سرير نومه أن يجول ويصول حول العالم، إما بمؤشر راديو، أو بقناة تلفاز، أو بأزرار وأرقام هاتف، أو بقراءة مجلة، أو باستعراض جريدة وأخبار..

           هذه تؤسس ثقافات وأفكار جديدة وهي معلومات تدور وتنتشر حول العالم كله ما أصبحت حكراً على جهة معينة بل متداولة في العالم كله، تجد الإنسان يستمع إلى إذاعة القرآن، فيسمع برنامجاً إسلامياً يثبِّت العقيدة ويقوي الدين في قلبه، وبإمكانه أن يغيره فيجد إذاعة  تبث سموما إذاعية تتدافع مع فكرة القران , تحت عنوان المدنية  او هذا تقدمي وذاك رجعي ظلامي .. عدد كبير من الناس يتأثرون بهذه الآراء ، وهي ثقافات هدامة ليس وراءها سوى أفساد المجتمع عقائديا وسياسيا واجتماعيا ... الآن ثياب اغلب الشباب ليست من بيئة العراق بل هي تقليد للأجانب , ففقد أبناؤنا استقلالهم الفكري ، ونسوا شخصيتهم المعنوية ، وأخذوا ينظرون إلى القضايا المختلفة بمنظار غربي ، ويقيسون الخير والشر بالمعايير المستوردة من الشرق والغرب وينظرون باحترام إلى السلوك والتصرف الغربيَّيْن ، ويستمعون إلى أقوالهم ، ويقلدون أساليبهم ، فهم لا يفكرون إلا بعقول غربية ، ولا يبصرون إلا بأعين غربية ، هذا نوع من الذين يقول تعالى عنهم {"فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور "} .. 

            هذه الحالة من أصعب الحالات الاجتماعية حين ينظر الفرد إلى ثقافته أنها الأرقى والأفضل... اعرف أدباء يتعالون على الناس باعتبار أنهم وصلوا إلى مرحلة الكمال المطلق وأصبحت تصرفاتهم معصومة من الزلل والخطأ .. مثلهم بعض السياسيين والموظفين الكبار , المناصب الاجتماعية أو الحكومية  وثقافة العطف والزوائد التي يلحقها تؤدي بالإنسان للتكبر ... تقول زينب بنت علي{ع} ليزيد : " فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك " العطف الأشياء المعطوفة على المنصب والكرسي  والجاه الاجتماعي ... اعرف شيخ عشيرة جلست إلى جنبه يوما في وليمة طعام بمأتم حسيني , لم يمد يده للمائدة .. سألته ما السبب ..؟ قال نحن لسنا جياع ولا متسولين يحشرنا مع هؤلاء الناس ...!!!! ويعني الحضور الجماهيري الحسيني ...

     هؤلاء تأثروا بالثقافة  الطارئة التي عاشوها ولقحت أفكارهم بمفاهيم بعيدة عن أخلاقيات الإسلام , الإنسان الآن بين مؤثرات متعددة متناقضة  ومتصارعة، مما يجعل مهمة الثبات عند موقف أخلاقي  صعبة جداً. كان الناس في الماضي يتأدبون على يد الأب والأم والمعلم وإمام المسجد، وتنتقل هذه الأخلاقيات إلى المحلة والشارع والمدرسة , لذلك العولمة لها ايجابيات وفيها كثير من السلبيات وأخطرها تلاقح الأفكار ...

         ربما يسألني سائل تهل يريد الإسلام أن نعيش في غرف مظلمة ومتحجرين كما يقول عنا الذين يريدون أن ينتقل المجتمع للإباحية والانحلال الأخلاقي ... الجواب كلا الإسلام لا يقول بذلك .. بل هو يدعو للتعلم وتلاقح الأفكار , وهو يدعو لطلب العلم ولو في الصين ..ويحث لطلب العلم من المهد إلى اللحد ... ولكن هذه التصرفات ليس لها علاقة بالعلم , ولا تؤدي إلى تطوير المجتمع , مثر تقليد حلاقة الشعر  وارتداء الملابس القصيرة ونمط الكلام المطعم بمصطلحات أجنبية ليس فيها نفع مطلقا , { مشكلة َ عدم التوازن  في العلم والأخلاق لها نتائج كارثية  على الفرد والأسرة والمجتمع .. وهي بدلا من أن يعدل الإنسان غرائزه وشهواته ، ويجتنب الشر والخطيئة بفضل البصيرة بالدين ... تتشوه أفكاره بالمسلسلات والأفلام والثقافات المائعة فيتحول إلى مجرم محترف ... نعم تلاقح الأفكار يجب أن تأتي مقرونة بالفهم والتدرج بالمعارف والدراسة والمطالعة ثم القح أفكاري من المدارس الأخرى , لا أن اقرأ كتاب عن الماركسية وأنا لم اعرف التاريخ الإسلامي ..ولا الأحكام التي يرتبها القران في المسالة الفلانية ... يقول النبي {ص} (يأتي على الناس زمان -أي: في آخر الزمان- يصبح الرجل من أمتي مؤمناً، ويمسي كافراً، ويصبح كافراً، ويمسي مؤمناً) أي: يسهل عملية تغيير العقائد؛ لأن العقائد ليست ملابس تغيرها، وليست بدله، ولا زى معين ، وإنما العقيدة شيء يعقد القلب عليه، ولا يمكن أن تبدله، ولكن مع المؤثرات القوية والخلخلة الإيمانية التي تحصل في قلوب الناس يحصل التساهل؛ حتى ينقلب المسلم كافراً، والكافر مسلماً بجلسة واحدة. ولذا كثير من دعاة الضلال يجلس مع بعض المؤمنين جلسة واحدة، يهزه هزاً، وينـزل وهو يقول: والله غسلت مُخَّه، يعني: غسل مُخَّه من الإيمان

         احد الكتاب كان يكتب في الصحف بالبصرة يهاجم المرجعية بقضايا فكرية غير دقيقة مطلقا , فكتبت للجريدة ان هذا الكاتب  غير جدير بالكتابة في هذا الموضوع وبينت عددا من آراءه الغير دقيقة .. وتكررت بيننا الكتابات حتى وصل به الأمر أن ينكر وجود الله ... فكانت التفاته من رئيس التحرير أن يجمعنا على مائدة واحدة نتحاور في المواضيع العقلية والقرآنية المختلف عليها... وفعلا التقيت بالرجل وكان مهندما  كبيرا في السن .. بدأت النقاش معه بمقدمة إني أكون إلى جانبه لو أعطاني دليلا واحدا مقنعا  في فقرة قانونية من قوانين الإسلام لا تصلح لهذا الزمن .. على أن يأتي ببديل أحسن منها فائدة للفرد والمجتمع .. طلب مني  توضيح المطلب .. قلت في الإسلام قوانين عبادية وأخلاقية وتجارية واجتماعية وزراعية . الخ .. أريد أن تقول الفقرة الفلانية  من القانون الفلاني لا تصلح لزماننا ويحل بدلا عنها الفقرة التالية .. وهكذا ... ضحك الرجل وقال :{ أنا بعمري ما قريت كتاب ديني واحد , وأنت تريد مني أن الغي فقرة في قانون سماوي} ..!! تعجبت من جوابه وسألته : إذن كيف تكتب ضد شيء أنت لم تقرأه ولا تعرفه ... قال اسمع من الناس والإذاعات واقرأ في الجرايد وكتب الغرب وما تكتب عن الإسلام ... قلت إذن انتهى اللقاء .. كيف أجادل رجلا  لم يقرأ..!!

السبب الثالث في عمى البصيرة : هو حب الدنيا والطمع فيها :....

الحرص وحبّ الدنيا في الأحاديث الإسلامية:

           حب الدنيا والآخرة لا يمكن أن يجتمعا في قلب واحد , يقول تعالى :.. { وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} لو تزاحم حب الدنيا والآخرة وانتصر حب الدنيا وبهرجتها, حتما سيقتل الإنسان عقيدته في قلبه .. فأين تصبح البصيرة ...؟؟ " قصة هارون العباسي مع قبر النبي- ص – واعتقال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام " خير دليل على قتل العقيدة وارتكاب الذنوب الكبيرة .. كثير من الناس  يحسب على المتدينين ولكن حين تضحك له الدنيا ينسى كل شيْ ,... بعض الناس يجعل نفسه قيما على الآخرين , بسبب حب التسلط  وحب الانتقام ... ولذا ترى القتل وزهق الأرواح أصبح مسالة طبيعية عند المسلمين ابتداء من الخوارج إلى السلفية المتشددة والوهابية ...  فهل تعتقد ان قلب هذا الخارجي فيه ذرة من بصيرة.. حين يذبح عائلة ويمثل بها أمام الأطفال ... لا اله إلا الله ....

في مؤتمر الربيع الإسلامي الذي عقد في طهران الشهر السادس عام 2013 .. وقف رجل دين سني من البرازيل , وتكلم عن غياب البصيرة وضمور الوعي عند المسلمين  , اقتطع جزء من كلامه فيما يخص الموضوع .. قال :" وافقت وزارة التربية البرازيلية على طلب تقدمت به أن ازور طلاب المدارس الابتدائية وإلقاء محاضرات أخلاقية إسلامية للطلاب .. وفي مرة تحدثت لطلاب الصف الأول الابتدائي , فقلت :الله اكبر من أي شيْ , فقام لي طفل عمره 6 سنوات وقال .: أستاذ هذا الله اكبر هو الذي يذبح فيه المسلمون الأطفال والشباب  والنساء ...؟ وهو الذي تنادون به حين ترمون قذائف هاون على السكان الآمنين ...؟  قلت نعم هو الله اكبر الذي يستخدمه الأمريكان واليهود والسلفيون ضد الله ورسوله والمؤمنين  ويقتلون به المسلمين .. هذا هو الإسلام الأمريكي الصهيوني ..هذه هي المؤامرة ..!!

ــــــــــ<   {الحرص على الدنيا يعمي البصيرة ويؤدي إلى الفساد}  وتغليب المصلحة على الدين , وقضية تغيير هذه العقلية عسيرة جدا , الآن بعض العقليات يوجب  أن يتبعه الناس وبعكسه يتم الحكم عليهم بالكفر ويجب قتلهم ... ولكننا نجد الإيمان حينما  يعتمر القلب والبصيرة يفعل الأعاجيب بصاحبه... قصة زهير بن القين {ع} رجل كان يحمل فكرا مناوئا لأهل البيت {ع} ولكن بصيرته صيرته أن يكون مع سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين {ع} .. 

كان زهير شريفاً في قومه ، نازلاً بالكوفة له مواقف مشهورة ، وكان من شيعة عثمانً  ويدافع عنه ، فحج في السنة التي خرج فيها الحسين (ع)  فلما خرج من الحج جمعه الطريق في الحسين{ع}  

قال الراوي كنا مع زهير: اقبلنا من مكة نساير الحسين فلم يكن شئ أبغض ألينا من ان نسايره في منزل فإذا سار الحسين تخلف زهير وإذا نزل تقدم، حتى نزلنا منزلا لم نجد بدا من أن ننازله فيه، فنزل الحسين{ع}  في جانب ونزلنا في جانب، فبينا نحن جلوس نتغذى إذ أقبل رسول الحسين فسلم، وقال: يا زهير بن القين إن أبا عبد الله الحسين بن علي بعثني أليك لتأتيه، قال: فطرح كل إنسان ما في يده حتى كأننا على رؤوسنا الطير. فقالت له زوجته: أيبعث أليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه ؟ سبحان الله لو أتيته فسمعت من كلامه ! فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشرا قد أسفر وجهه، فأمر بفسطاطه ومتاعه فحمل إلى الحسين، ثم قال لامرأته: أنت طالق ! الحقي بأهلك، فاني لا أحب أن يصيبك من سببي إلا خير، ثم قال لأصحابه: من أحب منكم أن يتبعني وإلا فانه آخر العهد.

ثم قال لأصحابه : من أحب منكم أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد ، إني سأحدثكم حديثاً فقال : غزونا بلنجر ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ، فقال لنا سلمان : أفرحتم ؟ قلنا : نعم ، فقال : إذا أدركتم سيد شباب آل محمد (صلى الله وآله) فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه مما أصبتم اليوم من الغنائم ، فأما أنا فأستودعكم الله . 

ومن مواقفه البطولية أنه لما خطب الحسين {ع} بالحر بن يزيد الرياحي خطبته التي يقول فيها : إنه نزل بنا من الأمر ما قد ترون  ,فقام زهير وقال لأصحابه : تتكلمون أم أتكلم ؟ قالوا : بل تكلم , قال : بعد أن حمد الله وأثنى عليه ، قد سمعنا هداك الله يابن رسول الله {ص} مقالتك ، والله لو كانت الدنيا لنا باقيه ، وكنا فيها مخلدين إلا أن فراقها في نصرك ومواساتك ، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها ، فدعا له الحسين {ع} وقال له خيراً . ... أي كلام هذا ..؟ وأي بصيرة يحملها زهير ..؟ وهل يمكن للقلم أن يوفي قدر هذه الكلمات ..؟؟

الموقف الثاني :..  لما قال عزرة بن قيس : لحبيب إنك لتزكي نفسك ما استطعت ، فقال له زهير : إن الله قد زكاها وهداها ، فاتق الله يا عزرة فإني لك من الناصحين ، نشدتك الله يا عزرة أن تكون { ممن يعين الضُّلال على قتل النفوس الزكية } ، فقال عزرة : يا زهير ما كنت عندنا من شيعة هذا البيت ، إنما كنت عثمانياً ! فقال : أفلا تستدل بموقفي هذا على أني منهم ؟ أما والله ما كتبت إليه كتاباً ولا أرسلت إليه رسولاً  ولا وعدته نصرتي ، ولكن الطريق جمع بيني وبينه ، ولما رأيته ذكرت به رسول الله {ص} ومكانته منه ، وعرفت ما يقدم عليه عدوه وحزبكم ، فرأيت أن أنصره ، وأن أكون في حزبه ، وأن أجعل نفسي دون نفسه ، حفظاً لما ضيعتم من حق الله وحق رسوله  {ص} .

الموقف الثالث :  لما خطب الحسين {ع} أصحابه وأهل بيته ليلة العاشر من المحرم ، وأذن لهم بالانصراف فأجابوه بما أجابوه ، كان ممن أجابوه زهير بن القين فقام وقال : والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت ، حتى أقتل كذا ألف مرة ، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيه من أهل بيتك ما تركتك  . 

وأخر هذه المواقف 

لما عبّأ الحسين {ع} أصحابه للقتال ، جعل في ميمنته زهير بن القين... ولما خطب في أهل الكوفة يوم عاشوراء ، كان أول من خطب بعده زهير بن القين ، فخرج على فرس وهو شاك في السلاح فقال : يا أهل الكوفة ،حذاري  لكم  من عذاب الله ..حذاري لكم  أن حقاً على المسلم نصيحة المسلم ، ونحن حتى الآن أخوة على دين واحد ما  لم يقع بيننا وبينكم السيف فإذا وقع السيف انقطعت العصمة ، وكنا نحن أمة وأنتم أمة ، إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد {ص} لينظر ما نحن وأنتم عاملون ، إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغيه يزيد وعبيد الله  بن زياد  ، فإنكم لا تدركون منهما إلا سوء عمر سلطانهما , والله ليسملان أعينكم ، ويقطعان أيديكم وأرجلكم ، ويمثلان بكم ويرفعانكم على جذوع النخل ، ويقتلون أماثلكم وقراءكم ، أمثال حجر بن عدي وأصحابه ، وهاني بن عروة وأتباعه ، فسبوه وأثنوا على ابن زياد وقالوا : والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه ، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله بن زياد سلماً ، فناداه رجل من خلفه : يا زهير إن أبا عبد الله يقول لك أقبل ، ولعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء ، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت ، لو نفع النصح والإبلاغ ، فرجع .وهذه شهادة عظيمة من الحسين ..كل ما حققه زهير من مراتب وشرف وكمال كان فضله للبصيرة لمّا فرغ الحسين {ع} من صلاة الظهر، تقدّم زهير لينال الكرامة الأبدية ..

لما صرع وقف عليه الحسين (ع) فقال : لا يُبعِدنَّك الله يا زهير ، ولعن الله قاتلك ، لثعِنَ الذين مُسِخوا قردةً خنازير .

     وفي واقعة الطف صور مشرقة للإنسانية , ويقف الفكر مقابلها بالتعظيم ... مثلا موقف طوعه مع مسلم بن عقيل {ع} حين طلب منها ماء, سقته وحين عادت وجدته واقفا بالباب .. وأخيرا اخبرها انه مسلم سفير الحسين {ع} كان بإمكانها صرفه وان تدله على الطريق.. أو تقول له أنا قمت بواجبي بسقيك الماء .. ولكن بصيرتها حملتها ان تقول " ادخل البيت بيتك والحرة شقيقتك..

هاني بن عروة  صديق بن زياد , جعل بيته مأوى للثورة الحسينية  حين استدعاه ابن زياد أن يسلم مسلم بن عقيل له. قال والله لو كانت يدي على طفل من أطفال بني هاشم ما رفعتها .. كيف أعطيك مسلم بن عقيل .. في حين نرى شخص في البصرة اسمه منذر بن الجارود سلم سفير الحسين {لاهل البصرة سليمان بن رزين } سلمه  إلى بن زياد الذي قتله .. ولما عوتب على ذلك قال : خشيت أن تكون مؤامرة من ابن زياد .. ولكنه فرط بسفير الحسين {ع} ..  " حين يقول تعالى { فتكون لهم قلوبُ يعقلونَ بها أو ءاذان يسمعون بها فإنها لاتعمى الأبصار لكن تعمى القلوب التي في الصدور} هذه نماذج من عمي القلوب وعدم رؤية الحق ... فنحن أين نقف من هذه الآية المباركة ....؟ ... من أصحاب العقول النيرة مسلم بن عوسجة الاسدي .. فمن هو مسلم وما تاريخه ....

أبوه عوسجة بن سعد بن ثعلبة ، من أصحاب رسول الله {ص}  له مواقف بطولية في الفتوح الإسلامية ومن عباد الكوفة وملازمي جامعها الأعظم،  له دور كبير في حركة مسلم بن عقيل{رض} ، وكان أحد أقطابها. من عيون أنصار الحسين {ع} وصاحب التعبئة في الكوفة .. قاتل يوم عاشوراء قتالاً لم يسمع بمثله حتى استشهد.......عندما قرر الإمام الخروج من مكة إلى العراق أرسل إلى أهله وشيعته وجمعهم حوله قائلا لهم انه خارج ليلبي دعوة المسلمين له لتخليصهم من ظلم بني أمية وجورهم..... وقال له أهله وأخوته وأبناءه , يتقدمهم العباس بالكلام: لِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً.... ومثل هذا الموقف وقف مسلم بن عوسجة ليلة العاشر ..وقال: أنحن نخلي عنك، وكيف نعذر إلى الله في أداء حقك؟ أما والله لا أبرح حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولا أفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك، ثم تكلم أصحابه على نهجه....  هنا نجد البصيرة في معسكر الحسين {ع} والفضيلة، والخلق النبيل، والمكارم أبجمعها، وليس ذلك بغريب فعقيدتنا بالإمام أن يكون متحلياً بجميع الصفات الخيرة، حائزاً على أسمى درجات الكمال، لا يسبقه فيها سابق، ولا يلحقه فيها لاحق.

قال الضحاك المشرقي، لما أقبلوا نحونا فنظروا إلى النار تضطرم في الحطب والقصب من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا، إذ أقبل إلينا منهم رجل يركض على فرس كامل الأداة، فلم يكلمنا حتى مر على أبياتنا فنظر فإذا هو لا يرى إلا حطباً تلتهب  فنادى بأعلى صوته: يا حسين استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة. فقال الحسين {ع} : من هذا؟ كأنه شمر بن ذي الجوشن؟. فقالوا: نعم فقال: يا ابن راعية المعزى أنت أولى بها صليّاً. فقال له مسلم بن عوسجة، يا بن رسول الله، جعلت فداك ألا أرميه بسهم؟ فإني متمكن منه ولا يسقط سهمي في الأرض ه فقال الحسين: لا ترمه، فإني أكره أن أبدأهم.  

وبقدر ما يكون هذا الموقف الإنساني النبيل من سيد الشهداء{ع} مع أعدى أعدائه هو موقف بطولي للشهيد مسلم بن عوسجة  لمبادرته لقتال الظالمين. حينما تطاولوا على ابي عبد الله {ع} ..كانت الإجراءات العسكرية التي اتخذها سيد الشهداء (عليه السلام) يوم عاشوراء على غرار ما تعمله الجيوش الكبيرة، من تقسيم الجيش إلى ميمنة وميسرة وقلب، رغم قلة أصحابه.  ويظهر أنه{ع} يريد تطويل ساعات الحرب مستوعباً ذلك اليوم، وأن لا يلقي بنفسه وأصحابه في ساحة الحرب في ساعة واحدة.كان {ع} يريد أن يعظ القوم، يريد إعلان دعوته، يريد حتى التنكيل بأهل الكوفة، والأخذ بثأره وثأر أصحابه، لما في ذلك من تلقين دروس قاسية لكل معتد ظالم. فلو قدر أن يقتل الحسين{ع} وأهل بيته وأصحابه صبراً، أو بعد قتال قليل فإن فيه من المهانة والذل لكل طالب حق، والجرأة لكل ظالم ولو بعد حين، فقد لقن {ع} أهل الكوفة درساً لم ينسوه أبداً، وما ترك في الكوفة بيتاً إلا وفيه نائحة.

روى ابن أبي الحديد: قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد: ويحك أقتلتم ذرية رسول الله {ص} فقال: عضضت بالجندل، إنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا، ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها كأسود ضارية، تحطم الفرسان يميناً وشمالاً، وتلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب في المال، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنا فاعلين لا أم لك؟ (شرح نهج البلاغة 3/267). وكيف كان فقد كان جيش الحسين (عليه السلام) مؤلفاً من ميمنة وعليها زهير بن القين، وميسرة وعليها حبيب بن مظاهر، وقلباً فيه الهاشميون، وقد أدت هذه الوحدات دورها بأحسن ما يكون، فقد قاتلت جمعاً وفرادى وصدت هجمات العدو العنيفة، كل ذلك حسب التخطيط الذي رسمه لها سيد الشهداء (عليه السلام)، وقد سجل المؤرخون وأهل المقاتل صور الحرب والقتال فقالوا: خرج فلا وقال كذا وخرج من بعده فلان وقاتل  وقتل عدد من الجيش وقتله فلان ... هذا يظهر إن الحرب أخذت مدى أكثر تفاصيل من كل حروب الإسلام .. فانك في بدر واحد لا تجد تفاصيل مثل هذه التفاصيل ...

    وموقف الحر خير موقف يظهر نقاوة البصيرة عند الحر بن يزيد الرياحي ... فهو رئيس قبيلة , وضابط في جيش السلطة وعنده رتبة عالية بحيث اختاره اين زياد  ليمنع الحسين{ع} وأصحابه من دخول الكوفة .. وفعلا قام بدوره وواجبه العسكري خير قيام ... ولكن حين وصلت المرحلة للتصادم بين الحق والباطل  أخذته الرجفة .. يعني اشتغلت النفس اللوامة .. وقال كلمته التي خلدها الدهر " إني أخير نفسي بين الجنة والنار... والله لا اختار على الجنة شيئا ولو قطعت وأحرقت " والتحق مع الحسين{ع} واستشهد معه ....

 ولا تخلوا ساحة كربلاء من مواقف النساء اللاتي قدمن أنفسهن وأبناءهن في نصرة أبي الله{ع} ... قصة زوجة وهب بن حباب الكلبي ... تقول له: " وهب قاتل دون الطيبين عترة محمد رسول رب العالمين .. قال قبل ساعة نهيتني عن القتال والآن جئت تقاتلين معي ..؟ قالت وهب لا تلمني إن واعية الحسين كسرت قلبي .. قال وما الذي رايتيه منه , قالت رايته واقفا بباب الخيمة ينادي وا قلة ناصراه ....  

ولما أمر الحسين {ع} أصحابه أن يرسلوا زوجاتهم لأقرب عشيرة خوفا عليهن من الأسر ..كان لعلي بن مظاهر الاسدي زوجة في خيام الحسين .. ذهب أليها ليردها إلى بني أسد .استقبلته بباب الخيمة وقالت : يا ابن مظاهر موقفكم شرف وكرامة ولكن لم اسمع كلمة الحسين الأخيرة .. فاعلمها بكلام الحسين{ع} فصارت ترجع قليلا قليلا إلى الوراء  ومسكت عمود الخيمة وقالت : والله ما أنصفتني يا ابن مظاهر .. انتم تنصرون الحسين وأنا اترك زينب ؟؟؟؟؟؟.. لا والله لا بد أن أواسي الهاشميات ... فرجع واخبر الحسين {ع} بموقف النساء ......

الشيخ عبد الحافظ البغدادي  الخزاعي 

14/10/2013