لقد إعتمد المخلوق البشري على واحدة من أشد الوسائل للحفاظ على وجوده ألا وهي إلغاء الآخر أو قتله لإمتصاص القوة من فناء الجسد المقابل أو مكوناته الروحية والعقائدية أو المادية . حدث هذا منذ بداية البشرية حين قتل أبناء آدم أحدهما الآخر , كان وقتها السبب هو الغيرة من المكانة الإلاهية لأحدهما , ثم إستمرت هذه القيمة وهي الغيرة لتحريك البشر والحيوان ايضاً . إن الغيرة والتنافس هما منطلقان أبديان لأجل حفظ البقاء , يستخدمه الحيوان للحصول على الغذاء والمنطقة التي تحيط به والتي يرتع بها وللحصول ايضاً على الإناث أو على ريادة القطيع , لكن عالم الحيوان يفتقد الى المنطق أو لغة الحوار ويتبع فطرته فقط وقد يعيش القطيع في سلام إذا ما توفر الماء والغذاء للجميع . لكن عالم البشر يختلف تماماً حيث يسود مبدأ البقاء للأقوى وقد يُفسر للأصلح وهو على أُسس مختلفة مثل السيادة المطلقة أو الدكتاتورية , وتجميع الثروات , فكثيراً ما يقوم فرد غني أو حاكم أو ملك في قتل الآلاف أو الملايين على أساس مبدأ البقاء للأصلح كما حدث في الحربين العالميتين وكما يحدث في كل حروب الدول الغنية مع الدول الفقيرة وأقصد الفقيرة علمياً وتكنولوجياً , والتي تبقى خاماتها تحت الأرض بعلمها وبدون علمها حتى يأتي الفاتح الغني ويبدأ بإمتصاص خاماتها رويداً رويداً , وحين تعلم هذه الشعوب الفقيرة الغنية بغناها تكون كسجين أُثقِلت يداه وقدماه بسلاسل ثقيلة من الديون .
إن مبدأ إلغاء الآخر لا يُلغي الآخر , فالآخر موجود ويشكل خطر على وجود الأول , وقد تكون المعتقدات السياسية أو الدينية هي منبع الخطر لدى الأول , وعلى هذا الأساس يحيط الأول الآخر بدائرة حمراء لمحاصرته أولاً ثم إلغائه , وقد يكون الأول هو جماعة أو فرد ذا دهاء وتخطيط علمي وربما تكون هذه المحاصرة سلمية وقد تنتهي حين تُقاوَم بأن تكون دموية فيلغي الأول الآخر بالقتل . قد يكون مصدر المنافسة هو إجتماعي بحت أو ظاهرة إجتماعية , أو قد يكون النظام التعليمي مثلاً هو من يحاصر الطالب أو يرهقه عقلياً أو مادياً مما يدفع بعض الطلبة لحالات من الإنفجار ومحاولات لإلغاء هذا النظام بكل مكوناته والتي هي البرنامج والكتاب والهيئة التدريسية , وقد تصل أحياناً الى حالات من الإنفجار الأخلاقي لبعض الطلاب والتي تدفعهم الى ممارسات مثل القتل الجماعي للطلاب والهيئة التدريسية في داخل المدارس والجامعات من قِبل الطلاب أو المعلمين أحياناً ويمكن أن تتحول حالات الإنفجار هذه الى حالات التخريب للبناء المادي كالأبنية المدرسية والمكتبات أو حالات الإعتداء بأشكالها وبضمنها الإعتداءات الجنسية من قِبل الطالب على الطالب أو المدرس على الطلاب , وقد تلعب حالات الإدمان على أفلام العنف دوراً محفزاً على ذلك. قد ينفجر الكثير من الفقراء في الدول الفقيرة والغنية وتقوم هذه المجموعات بسلب البيوت أو البنوك لأجل منع إلغاء البقاء للفقراء فتصبح على هذا الأساس ردود الأفعال لدى هؤلاء الفقراء قائمة ومساوية لقسوة الأفعال الموجهه عليهم , وقد تخرج ايضاً هذه الأعمال من نطاق السرقة الى إلغاء الآخر ايضاً وأي مقاومة لأفعالهم قد تجعلهم يُعّنفون أفعالهم ويحولونها الى محاولات للقتل كما يحدث في حالات السرقة المسلحة أو في حالات الإنضمام الى عصابات تجارة المخدرات أو تجارة الأطفال أو تجارة الأعضاء البشرية وتجارة الأسلحة والتي تحتمل الكثير من العنف والشراسة . إن هذه الأعمال قد تكون عشوائية وقد تكون منظمة من قِبل منظمات محددة أو من قِبل المجتمعات العنفية ذات التوجهات الإستعمارية أو العنصرية . إن الإنفجارات العشوائية قد تحدث مثل براكين صغيرة تنفس عن حالات الغليان الداخلي هنا وهناك لإمتصاص حالات الغضب والإحساس بالغبن من قِبل الشرائح المغبونة في المجتمع والتي تقوم في الإندفاع نحو الإنتقام , وقد يخرج من هذه الشرائح قادة ومخاطرين ممن لا يبالون بنتائج مخاطراتهم , ولنضرب مثلاً على المجتمعات العنصرية وهو المجتمع الصهيوني والمقاومة التي جابهته , والتمييز العنصري في المجتمع الأمريكي مع الأفارقة والملونين والذي جوبه بعنف من قِبل الأفارقة تحت قيادات من نفس هذه الشرائح فكان العنف العنصري يقابله عنف آخر لإثبات البقاء ثم عنف آخر لرد هذه المقاومة , وما قتل ( مارتن لوثر كنك ) إلا دليل على ذلك . إن الإلغاء الذي تقوم به المنظمات أو المجتمعات العدوانية يتسم عادة بالهدوء وبالنفس الطويل وبإستخدام أحدث الأساليب العلمية المبرمجة , وقد يكون ايضاً لهذا الإلغاء خططاً خمسية أو عشرية لمحو الهدف أو الإحاطة به وإستنزافه رويداً رويداً وإمتصاصه من الداخل حتى النفس الأخير . إن هذا ما حصل حين إختفت أجناس مثل الهنود الحمر الأمريكان وبقيت بقايا تدل عليهم , ومحاولات الإبادة الجماعية لليهود في الحرب العالمية الثانية , والغريب في الأمر إن هذا الأسلوب إتبعته المنظمات الصهيونية في تعاملها مع عرب المنطقة . إن عملية إلغاء الآخر ليس لديها إلا وجه واحد وهو وجه غير مشروع تُؤكد فيه ذات ما على حساب الذوات الأخرى متشبثة بحياة الغاب لكن حياة الغاب لها مشروعيتها وطبيعتها وهو سبب من أسباب ديمومتها وهو يخلف العكس في حياة البشر ولأن إمتصاص وجود الآخرين لا يعطي بالضرورة البقاء الأزلي للأول إلا لأجل محدود ثم يبحث الأول عن ضحايا جدد حتى يصبح كالنبات القاتل يعيش من خلال إمتصاص الفرائس . إن جدلية العلاقة بين الإنسان والحيوان والنبات تضرب المثل لما يمكن أن تكون عليه العلاقات البشرية , فالعلاقة هنا هي علاقة وثيقة تقوم على تبادل المنفعة وإثبات الوجود من خلال الآخر وهي مبنية على المنفعة المتبادلة , فالآنسان بحاجة الى الحيوان والنبات والعكس صحيح والعلاقة معروفة ايضاً ما بين الحيوان والنبات فأحدهما يعطي للآخر أسباب وجوده وإستمراريته . إن عمليات الإلغاء لم تعد تعتمد على القوة البدنية بل أصبحت قوة العقل ومستوى المعرفة هما الحد الفاصل , والذي يحدث هنا إن فرداً أو مجتمعاً متفوقاً من الناحية العلمية والتكنولوجية قد يتمكن من إلغاء فرد أو جماعة بدائية . ولو إنتقلنا الى مبدأ التعايش لوجدناه مبدأ منطقياً يمكن تطبيقه في أرجاء هذا الكون إبتدءاً من عالم الحيوان حيث يمكن أن تتعايش الأجناس المتناقضة , فيمكن أن تضع في بيت واحد ( كلب وقطة ) إذا تعايشوا مع بعض منذ الصغر وتقاسموا الطعام والماء والمأوى وتقاسموا ايضاً محبة الراعي , وتحكي لنا قصص الحيوان عن الكثير من الحيوانات المفترسة والتي ترعى صغار أجناس أخرى . إن مبدأ التعايش هذا هو ضرورة حتمية بين البشر لأجل البقاء وعدم إستنزاف الموارد الطبيعية والبشرية في مناورات تسحب القوة من الجميع , وإن فاز عنصر فالعنصر المغلوب سيقاوم وسيستنزف بطريقته العنصر الغالب , فلا غالب هنا ولا مغلوب . إن مبدأ التنافس لم يجدِ نفعاً في المجالات الإقتصادية والسياسية وحتى العلمية , بل يبرز هنا مبدأ التكامل والذي يجعل القوى المتنافرة تكمل بعضها بعضاً , وتضرب المثل على ذلك كثير من المؤسسات العلمية الدولية والمؤسسات الإقتصادية التكاملية وما ( السوق الأُوربية المشتركة ) إلا دليل على التكاملية بالإقتصاد . ولنأخذ مثلاً على التكاملية ايضاً عناصر الطبيعة , فالهواء لا يمكن أن يحتوي على الأوكسجين فقط لآنه سيجعل كل شيء مشتعلاً , ولا على ثاني أوكسيد الكاربون فقط لأنه سيجعل الحياة مستحيلة حتى ولو كان ذا فائدة للنبات , ووحود النايتروجين وحده لا يكمل ايضاً دورة الحياة . أما إذا نظرنا الى مجرتنا فإن لكل كوكب موقع وفائدة لمن حوله ولمن تحته من الكواكب الأخرى ويعمل ضمن قوانين الفيزياء المحكمة فيساعد على وجود الكواكب الأخرى وديمومتها , كما يساعد كوكب الشمس على بث الطاقة وإبقاء الحياة على الأرض , كذلك القمر له تأثيراته على الكثير من الظواهر الطبيعية في الأرض . ومن هنا نلاحظ أن كل شيء في هذا الكون متجاذب ومتنافر فهو يعطي للآخر ما عنده مع أنه مختلف عنه ولا يمكن أن يتحد معه , ومن هنا نعلم أن قوانين العلاقات البشرية يجب أن تتشابه مع قوانين الطبيعة لأنها جزء من هذا الكون , فالإبقاء على الآخر وعلى وجوده لا يعني الإتحاد معه أو إلغاء ذات الأول بل يعني التواصل التكاملي مع الآخر والعطاء المتبادل وهو قانون كوني لا نستطيع الشذوذ عنه حتى ولو شئنا ذلك .
|