هناك عدد لا يستهان به من المفردات السياسية التي دخلت علينا في هذه المرحلة كعناوين لثقافة سياسية خاصة بطبيعة النظام السياسي الحالي. ولعل ذلك ليس غريبا البتة فالملاحظ أن جميع الأنظمة السابقة قد جاءت بمثل ما جاء به هذا النظام وذلك بعد أن قدمت نفسها من خلال مفردات وعناوين مستمدة من ثقافتها الخاصة وكلغة وخطاب يعبر عن عقيدتها السياسية. الشيوعيون مثلا أثناء تسيدهم للشارع العراقي في فترة نهاية الخمسينات من القرن الماضي أفلحوا في تدشين الثقافة العراقية بمفردات الخطاب الماركسي اللينيني الذي كثيرا ما عبر عن نفسه بمفردات ذات مكانة خاصة في العقيدة الشيوعية مثل البروليتاريا والشوفينية والطبقات الكادحة والبرجوازية الصغيرة وما شاكل. أما القوميون والبعثيون فلقد كانت لهم مفرداتهم الخاصة أيضا المستمدة بعضها من الماركسية اللينينية أساسا كالمركزية الديمقراطية والأب القائد والمخاطبة بكلمة رفيق, أو تلك تعبر بشكل خاص عن الثقافة البعثية ذاتها كمفردة القطر والقطرية والرسالة الخالدة. ولا يختلف أمر النظام الحالي في هذا الشأن عن سابقيه, ونلاحظ أنه كلما طالت فترة بقاء النظام كلما إستطاعت هذه المفردات أن تنتقل من دائرة الوعي والقصد والتعبير عن النوايا إلى دائرة اللاوعي والتلقائية فيكون إستعمالها شائعا وعاما بعد تمكنها من التحول إلى مفردات لا يعي من يستعملها خطورتها أو حتى إمكانية تناقضه معها من حيث القصد والمعنى. من ضمن هذه الكلمات, الناعمة الملمس والخشنة المضمون, تأتي مفردة مثل مفردة (الشراكة) و(المكونات) لتعبر في حقيقتها عن ثقافة خاصة بالنظام الحالي تتفق وخطاب التصنيف والتقسيم السياسي والإجتماعي للعراق على أساس أديانه وقومياته وطوائفه. والتصنيف الإجتماعي بذاته لا يعبر عن معضلة إلا إذا تحول إلى مفهوم سياسي يعبر عن نفسه بمفردات مثل مفردة (الشراكة) التي تستهدف توزيع النظام والثروات على أساس عرقي. ذلك أن من النادر أن نجد مجتمعا أحادي التكوين, غير أن أغلبية المجتمعات باتت تحظى بأنظمة تتقاطع مع مفهوم الشراكة السياسية التي تقوم على أساس عرقي أو ديني أو طائفي بالمعنى الذي يقوم عليه نظام الحكم الحالي. وإنما هي تقوم على معنى نقيض تماما يعبر عن نفسه من خلال مفردات (المشترك الوطني) لا مفردة (الشراكة الوطنية) التي تحمل نكهة خاصة بمفهوم الشركات التجارية لا مفهوم الوطن الواحد ذا الشعب الواحد. وأجزم أن مفردة (المشترك) الوطني لها صلة بثقافة وطنية لا تهمل أو تسطح مفهوم المكونات بمعناه الإجتماعي وإنما تمنع تفعيله سياسيا وذلك من أجل قيام دولة وطنية ببرامج ومناهج موحدة وبثقافة تحافظ على البلد من الفرقة والتمزق وتحول دون قيام نظام حكم يقوم على أساس المحاصصة القومية أو الطائفية. من ناحية أخرى تسمح مفردة (الرموز) بالمعنى المتداول به عراقيا إلى تكريس ثقافة التجزئة مما يضع تلك الرموز في تفعيلة نقيضة للتفعيلة الوطنية. وهي, مدعومة بثقافة سياسية طائفية أو عرقية, غالبا ما تمنع من ولادة رموز وطنية مشتركة يكون من شأنها, إضافة إلى المشتركات الأخرى, بناء شعب بثقافة تمتلك الحد المطلوب من الوحدة الإجتماعية والسياسية. وهذا ليس معناه أن لاتكون للمذاهب أو القوميات المختلفة رموزا تعتز بها وإنما يوجب ضرورة وجود رموز مشتركة أولا وتفعيل الرموز المتفرقة لكي لا تكون بأي شكل من الإشكال على نقيض مع الوحدة الوطنية. وأعترف أن ما دفعني إلى كتابة هذه المقالة هو الخطبة الجمعوية ما قبل الأخيرة التي ألقاها السيد أحمد الصافي ممثل السيد السيستاني في مدينة النجف والتي حاول فيها الحد من تأثيرات العمل الإجرامي الأحمق الذي قام به المدعو ثائر الدراجي في مدينة الأعظمية بعد قيادته لمجموعة ضالة مثله أساءت لشخصيات لها مكانتها الخاصة عند عموم المسلمين. وبعيدا عن مناقشة حسن النوايا في خطاب السيد الصافي ذاك فإن دعوته الأساسية التي تضمنها ذلك الخطاب قد أتت غير منعزلة تماما عن جوهر خطاب النظام السياسي الحالي, وإنما هي جاءت منسجمة ومكملة لجمله ومفرداته. ولقد كان أخطر ما جاء في ذلك الخطاب هو دعوة الصافي لـ (التعايش السلمي) بين أبناء الطوائف. إن مفهوم (التعايش السلمي) كان نشأ في اثناء الحرب الباردة بين المعسكرين, الرأسمالي الغربي من جهة والشيوعي من جهة أخرى. ولما كان التناقض العقائدي والسياسي الكبير بين هذين النظامين قد أسسا لحتميات الصدام المسلح الذي كان يستهدف إنهاء الآخر, فإن نظرية التعايش السلمي التي نادى بها الرئيس السوفيتي خروشوف في البداية هي التي أهلت لـ (تبريد) الحرب بين البلدين والفكرين المتناقضين. ما علينا, فما نريد أن نقوله هنا أن هذا المفهوم كان قد تأسس وقتها لتنظيم العلاقة بين عدوين, أو على الأقل بين أمتين أوبلدين أو معسكرين نقيضين, ولم يتأسس لتنظيم العلاقة بين مكونات حالة وطنية أو قومية أو دينية واحدة, وحينما يأتي هذا المفهوم لينظم العلاقة بين السنة والشيعة العراقيين فلا شك أنه يجعلنا أمام أمتين أو وطنين أو دينين مختلفين. وإن من الحق لنا بعد ذلك أن نعتقد أن الفكر الإسلاموي السياسي, شيعيا كان أم سنيا, هو بثقافة متخاصمة ومتناقضة مع ثقافة الوطن العراقي الواحد, وإن الخطور الكبيرة ستتضاعف حدتها حينما تكون الحالة بين (المكونات) متأسسة على ثقافة ومفردات من هذا النوع, ثقافة من شانها ان تضع مفهوم المكونات على نقيض مع مفهوم الشعب الواحد. وحين أقول أنني هنا لا أناقش النوايا ولا يهمني مقدار الطيبة فيها فلأنني أدرك أن الوطن لا تبنيه النوايا الطيبة فقط, وإنما الأعمال المتأسسة على وعي الحاجات الأساسية لبناء الوطن الواحد, وطن (المشترك) لا وطن (الشراكة).
|