المرجعية المسروقة

 

 

}    وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ {

الامامة منصب به تنتظم امور الناس وتأمن نفوسهم واموالهم , لذلك كانت حكرا من الله لغير الظالمين (   وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)) , فيما اتفق البشر كذلك على حصرها بالاكفاء العدول .

من هنا كان لمنصب المرجعية اهميته , لانه الامتداد الشرعي والعقلي لمنصب الامامة , له ما له من حقوق وعليه ما عليه من واجبات . الا ان الامامة لا تجوز عند الشيعة الا لمعصوم جاء بتنصيبه نص , لذلك كانت بعيدة عن التقصير والقصور , او التلاعب والغرور , فيما كانت المرجعية عرضة لان تنالها نفوس مخادعة او مخدوعة , لانها كانت لغير المعصوم , وانما جُعلت حلا وسطا عقلانيا للامة بغياب قائدها الامام , بشروط وضوابط , تكون الامة هي الشاهدة على تحققها فيمن تصدى لهذا المنصب العظيم المرتقى .

ورغم ان المرجعية الاسلامية الشيعية كانت هي القائدة والرائدة في عموم العالم الاسلامي , وانجبت العمالقة علما وعملا , كالشيخ المفيد و الطوسي وآل كاشف الغطاء والصدرين وغيرهم كثيرا , الا انها عانت انحدارا كبيرا في العصور الاخيرة , وبانحدارها تنحدر الامة لاشك . وكان من عوامل انحدارها السياسة العنصرية والطائفية للدولة الصفوية وسياسة التجهيل التي اردت الشيعة على يد الدولة العثمانية واشغالهم بالعنف وسياسات المكر المنحطة والقاتلة التي عملت عليها بريطانيا في المنطقة , ثم مجيء الانظمة البدوية الطائفية العميلة في الدول العربية ومنها العراق على يد البعث .

فنتق الى منصب المرجعية رجال كنا نعدهم من الاشرار , والناس لا تعي ان هذه العمائم تحمل لوائهم الى النار . ولما كان خداع الكل ممتنع صار لابد لكل هذه التوليفة الماكرة الدولية بالتعاون من الطبقات المحلية المنتفعة الناشئة ان تبدأ بصنع الاغلفة الدينية المناسبة للتغطية على هذه العورات التي كنا انها ختمت بابن العاص , وكان اساس التغطية مسح التاريخ السابق او تجميده وبدأ تاريخ اعور جديد , فكانت المرجعيات الجدارية بديلا عن المرجعيات الميدانية .

واللعبة – لاشكّ – من خلفها شيطان تعهد ذلك بخبرته الطويلة وحبائله الكثيرة , ( إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً (121) ) .

وهنا لن ادخل فيما دخل فيه القوم من النقاش في الاعلم من غيره , او ما يدور في اروقة الحوزات الناعمة , لاني ادركت اخيرا كنه اللعبة , حيث سحبوا كبرى قضية ( المرجعية ) الى ساحة لا يجيد العامة وغالبية الناس اللعب فيها , انها مفردة ( الاعلمية ) , وكانها هي لا غيرها جوهر منصب المرجعية , مستغلين ضعف عامة الناس في تقدير مستوى العلم لدى المتصدي , ومن ثم سيظل الجماهير حيارى سكارى لا مردّ لهم .

نعم الاعلمية شرط من شروط المرجعية , لان الجاهل عليه ان يرجع الى العالم , وبما ان المرجعية منصب ديني ودنيوي فكان لابد ان يكون اعلم الناس واوعاهم . لكن المرجعية هي ليست ( علما ) بين ( الجدران ) , بل هي ( قيادة ) امة في ( الميدان ) .

ولو رجعنا الى حركة الائمة المعصومين لوجدناهم في الميدان مع الامة في الصغيرة والكبيرة بما لا يحتاج الى بيان . اما اصحابهم – وهم فقهاء ومراجع زمانهم ومواطنهم – فكانوا اكثر الناس حركة , وفي الحركة بركة .

فلولا الحركة الميدانية لما عرفنا اباذر ولا عمار ولا مالكا الاشتر . فهذا مالك الاشتر – الذي كان لعلي كما كان علي لرسول الله وهو قمة الفضل – قد وقف وجماعة من أهل الكوفة بوجه سعيد بن العاص والي الكوفة يستنكرون عليه قوله: «إن السواد بستان قريش», وقد نفاهم والي الكوفة سعيد بن العاص منها إلى الشام بأمر عثمان، ومن الشام أعيدوا إلى الكوفة ومنها نفوا إلى حمص، ثم عادوا إلى الكوفة، بعد خروج واليها منها, وقد دخل كميل بن زياد ومن كان معه بقيادة مالك الأشتر إلى قصر الإمارة فور عودتهم، وأخرجوا ثابت بن قيس خليفة الوالي عليه، واستطاع أهل الكوفة على أثر ذلك منع سعيد بن العاص والي الكوفة من العودة إليها. فيا لله اين المدّعون اليوم بالمرجعية من ذلك , وقد صاح مصاصو الدماء: ( ان السواد بستان كل نجس ) .

اما من حيث الفتيا ووعيها قبل اطلاقها , فلم يكن اولئك الافذاذ مقيدين بنصوص الرسائل كانهم خشب مسندة , بل كانوا يقرأون ما في عقول الناس قبل السنتهم , ليعطوا الفائدة التي يرونها هم , لا ما يريدها العوام الجهلة .

ولنأخذ ( ابان بن تغلب ) مثالا , و الذي قال الشيخ الطوسي في حقه بعد أن مدحه وعظمه: (وقال له أبو جعفر الباقر (عليه السلام): اجلس في مسجد المدينة، وأفت الناس، فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك، فجلس) , ولنرى كيف كان يفتي الناس , فالاسلوب هو دليل الوعي والكفاءة , فقد ورد عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : ( كنا في مجلس ابان بن تغلب فجاءه شاب .فقال : يا أبا سعيد اخبرني كم شهد مع علي بن أبي طالب عليه السلام من اصحاب النبي صلى الله عليه وآله .قال : فقال له ابان : كأنك تريد ان تعرف فضل علي عليه السلام بمن تبعه من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله قال : فقال الرجل : هو ذاك .فقال : والله ما عرفنا فضلهم إلاَّ باتباعهم اياه .قال : فقال أبو البلاد : عض ببظر امه رجل من الشيعة في اقصى الارض وادناها يموت ابان لا تدخل مصيبته عليه .قال : فقال ابان له : يا أبا البلاد اتدري من الشيعة ، الشيعة الذين اذا اختلف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله اخذوا بقول علي عليه السلام ، واذا اختلف الناس عن علي عليه السلام اخذوا بقول جعفر بن محمد عليه السلام ). وقد وعى المراد لا ظاهر السؤال , ولم يترك المتلقين كانهم اعجاز نخل خاوية .

وهذا هو الشيخ المفيد الذي شهد بفضله العام والخاص كان شعلة تضيء في زمن انطفأت شمسه , عاش وسط عشائر العراق كانه ليس المفيد العلم الرئيس , وهو من قال فيه المخالف العماد الحنبليّ عن ابن أبي طي الحلبي أنه قال: هو شيخ مشايخ الإمامة، رئيس الكلام والفقه والجدل، وكان يناظر كل أهل عقيدة، وكان كثير الصدقات عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، خشن اللباس.

اما الشيخ الطوسي الذي اشاد البنيان العظيم – الذي سرق المدّعون عماده اليوم – والذي رأى تلامذتُه فيه شخصيّةً مهيبة، ونبوغاً فذّاً، فضلاً عن جمعه بين المعرفة والعمل، حتّى أُعجب به حاكم زمانه القائم بأمر الله، فجعل له كرسيَّ الكلام والإفادة، الذي لم يسمحوا به يومذاك إلا لوحيد العصر في علومه، فكان الشيخ الطوسيّ يجلس على ذلك الكرسيّ ويلقي مِن عليه علومه. حتّى اقتربت النيران فقام عنه الشيخ قبل أن يحترق الكرسيّ والبيت والمكتبة. وحينما استعر لهيب الفتنة و سقطت بغداد بيد أتراك السلاجقة فدخلها طغرل بيك سنة 447 هجريّة فأوقع الفتنة بين السنّة والشيعة سنة 448 هجريّة، وأحرق مكتبة شابور الشيعيّة التي لم يكن يومها مكتبة أعظم منها و كُبست دار الشيخ الطوسيّ ونُهبت وأُحرقت مكتبته وكرسيّه، فكان لابدّ من الرحيل اتّقاء الفتنة الزاحفة، فهاجر الشيخ إلى مشهد أمير المؤمنين،الإمام علي (عليه السّلام) في النجف الشرف.

فهل جعلت ( التقية ) الشيخ الطوسي عاجزا كانه المشلول وسط الخيول ؟ , لا , لكنه كان هو الطوسي العامل , فأنشأ هناك جامعة علميّة كبرى، حتّى أصبحت المدينة عاصمةً للعلم ومركزاً للعلماء، فاتّجه الفضلاء إليها ليتخرّج منها آلاف من أعاظم الفقهاء ونوابغ المتكلمين وأفاضل المفسّرين واللغويّين والمؤرّخين والبارعين. و تُسمى تلك الجامعة اليوم بالحوزة العلمية.

وفي عصر آل كاشف الغطاء كان العلم مرادفا للعمل , فكانوا هم المراجع الدينيين والقادة الدنيويين , وسط العشائر , ومرجعا للمدن , تقصدهم الوجوه والعوام , الاغنياء والفقراء , للدين والدنيا , نظموا امر الناس وساسوهم بالتي هي احسن .

حتى جاء عصر الفتن , ليرتقي الخرس منابر الاقراء , ويسير العميان دليلا للقوافل , فكانوا كانهم الاصنام , لا تقود وانما تُعبد من قبل الجُهّال , وبريطانيا تصفق فرحة , حيث تصدى من لا يدري اين بغداد والبصرة جنوبا ام شمالا ! .

فصار هناك مراجع مجهولي النسب والانتساب , لا يعطون درسا الا ايام الشباب , ولا يرتقون منبرا للوعظ , ولا يكتبون بايديهم كتابا الا ان يُخطّ لهم ترقيعا وطمرا , لا يرون الناس الا من خلف جُدر , يحسبهم الجاهل اغنياء من التورية , يجهل الناس اسماء آبائهم فضلا عن احسابهم , يسحون المال شرقا , ويسحون ايديهم في كوفان تقبيلا , جعلوا الجهل سلعة والتجهيل صناعة , تركوا للعامة التفسير وعلى الله التدبير , يخشون فتنة الجسّاسة في القضايا الحساسة , فلا يفتون الا ما ترتضيه العامة ان يكون , ويا ليتهم ما كانوا الا ترابا او نسيا منسيا .

وفئة اخرى , لا علم عندها ولا ورع , جهلوا الدين والدنيا , ولم يعوا كنه اخلاق الله , فرأوا ان العرفان مفسدة , والفلسفة كفرا , فلم يكن لهم بين العلماء منفذ , فلجأوا الى ما يدغدغ عاطفة العوام ويسلب لبّهم , فحوّلوا ( الحسين ) بضاعة مزجاة , وآل البيت اصناما هم كهنتها دون غيرهم , فصوّروا للناس الجهل علما , ودعموه بضعيف الروايات وركيك الاستدلال , ثم حكموا ان ما ردّه عدو , وعلى العوام ان يتخذوه عدوا كما ورد في كتاب الله ! .

ثم ارتقت الفتن لتصبح سوقا رواجا , وصار قتل المسلمين عبادة , فتاهت الفرق , وكثرت الملل , فقال هذان الصنفان من المراجع الجداريين : ( حسبنا الرسالة العملية , ان الحكم الا لله ) . فما كان من كثير الناس الا ان يجعلوا من انفسهم مراجعا دون المراجع , وقادة دون القادة , لان الطلب كبير والمعروض قليل , وقانون السوق حاكم .

واستغل الشرق حاجتنا , فعرض علينا بضاعته مغلفة بعمامة الدين السياسي , ومفخخة بمفرقعات العنصرية والقومية , ليركبوا هذه الناس مطايا نحو المجد . والغرب الذي كان له فضل انحدارنا سابقا لم يكن ليذرنا دون ركوب , فعرض بضاعته المزركشة الالوان النتنة المضمون .

ثم ان الغرب والشرق لما وجدوا ان اختلافهم كان نقمة قرّروا ان يجعلوه رحمة , فاتفقوا على ركوبنا جملة واحدة , وكلٌ يسير ببدوه واعرابه الينا .

ومما زاد الطين بلة ان الصبيان من ابناء الله ذوي العمائم الاسرية شقّوا العصا , فجعلوا من انفسهم قادة , ليتحدثوا باسم الدين والسياسة والرياضة والطعام وحتى الغرام .

ولازال الناس نيام , كانهم الموت ولا موت لهم يريحهم , يناقشون العامل , ويغفلون عن نوم الغافل , ينتظرون مراجعا يدركون موت ضميرها , ويهجرون مراجعا يبغضون جديتها , ليحملوا وزر الاول على ظهر الثاني , في قسمة ضيزى .

وكما في كل عصر للحكام الظلمة والطواغيت , الذين يعيشون على جهل الناس , وكما جعل بنو العباس المذاهب اربعة رسميا , حرابة لمذهب جعفر بن محمد الصادق , كان لساسة اليوم وقادة العصابات وحيتان المال اربعة مراجع , حرابة للمراجع العاملين , فحددوهم بالعدد حتى انقضاء الابد , والناس فاغرة الافواه كانها حمر مستنفرة .

فكان الاعلام الرسمي وشبه الرسمي , المنظور او المسموع او المقروء , او الهزّاز على المنابر الصارخة التي جننها حب الحسين حتى صارت من البهائم لا عقل لها , لا يرتضي الا صور هؤلاء الاربعة , وكاننا عدنا الى المذاهب الاربعة , لنركب سنن من قبلنا طبقا عن طبق .

وبما هؤلاء الاربعة موتى لا حياة لهم – ميدانيا - , فللسياسيين والحيتان وكبار اللصوص والعمائم الصبيانية ان تطير وتسير وترتفع وتحط , و ( ظل البيت لمطيرة ) .

لكن احدا لم يُعمل عقله يوما ويعي : ان اللصوص والشاذين حينما يدعمون هؤلاء الاربعة لن يكون لوجه الله او حبا بدينه , بل لانهم يرون فيهم مكسبا .

ومن هنا تسري على هؤلاء الاربعة كل اوزار القوم .

( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)) .