سيسيولوجيا المجتمع العراقي والأمن

 

 

 

 

 

 

علم السيسيولوجيا علمٌ يهتم بدراسة المجتمعات الإنسانية والمجموعات البشرية, وظواهرها الأجتماعية والقوانين التي تحكم تطورات المجتمع وتغييره وأسباب التغيرات الهامة فيه.ومن العلماء من يعتقد إن علم الأجتماع مرتبط بالفلسفة التي تحدد إتجاهه وطرق بحثه .ومن المؤكد إنه في هذا العصر يتجه للدراسات الميدانية والتجربة ولم يعد مقتصراً على التأملات والإفتراضات الجدلية.

ومن هنا لابد لنا عند دراسة الواقع الأمني والعنف الذي يضرب العراق اليوم وماهيته وأسبابه وعلاقته بالتأريخ وعلينا  أن نتعمق بحيادية وعقلانية ووجدان لكي نتوصل لأمن مستتب وسلام إجتماعي مأمول.فهناك علاقة جدلية دائمة بين الفقر والعنف لا يمكن تجاوزها والقفز عليها.

الشعب العراقي لا يختلف عن بقية شعوب الأرض. فهو نسيج إجتماعي وقبلي ملون. ففيه قبائل وعشائر من مختلفة اامذاهب والأعراق . تجد في القبيلة الواحدة مذاهب متعددة وأعراق مختلفة. والأمثلة كثيرة. فعوائل كردية عريقة كالطالباني الهاشميين وأخوالهم الزنكنة من بني اسد والكزنستاني وجدهم الأمام علي(ع),  والجاف وهم من بني وائل وذريتهم يعيدون نسبهم لعلي الهادي بن علي الرضا بن موسى الكاظم عليهم السلام, وآل بابان وهم من بني خالد بن الوليد المخزومي, ومنهم الشيخ المفتي محمد فيضي الزهاوي, والبرزانيين أحفاد الأمير مبارك بن الخليفة المستعصم العباسي الهاشمي, وباجلان أحفاد الصحابي جرير بن عبد الله البجلي. كلها عوائل من أصول عربية هاشمية.وهكذا نجد عوائل تركمانية من أصول عربية, كالبيات والصوالح.وايضاً نجد عوائل عربية من أصول فارسية أو كردية او تركمانية أو أذرية. وتجد مدن بكاملها كأهل راوة مثلاً فجدّهم الأعلى الأمام موسى بن جعفر عليه السلام. وأهل آلوس وجدهم الأمام الحسين عليه السلام,وقبيلة السعدون وجدهم الأمام زين العابدين بن الحسين عليهما السلام, وأهل سامراء عباسيون هاشميون نسباً, وعشيرة آل بوعلوان مشتركة المذهب شيعة وسنة. وكذلك قبيلة الجبور وزبيد أيضاً وهكذا لا تجد قبيلة أو عشيرة أو عرقاً إلا وتعددت فيه المذاهب وبعض الأديان .

عاش هذا الشعب بوداعة وسلام منذ أقدم العصور ولم يعرف إلا القليل والشاذ والذي لا حُكمَ عليه من الأقتال أو التناحر. فلم تحصل فيه حروب أهلية أو طائفية. وإنما صراعات وحملات عسكرية قادتها السلطة في بعض الأحيان ولم تكن للشعب يدٌ فيها.

ودليل التعايش السلمي في مجتمعنا هو إن العراقيين إختاروا الملك فيصل الأول ملكاً عليهم  رغم كونه سني الذهب, وغالبية العراقيين من الشيعة. وأن المرجعية الشيعية هي من تبنت هذا ووضعت التاج الملكي على رأس فيصل الأول, برحابة صدر ومحبة. لذا فإن من يقول بحتمية الحرب الطائفية في العراق إما مأجور من الغير وقابضٌ الثمن من قوى إقليمية أو دولية, أو غائبٌ عن الوعي وجاهل بأمر العراق وأهله.

نحن وغيرنا ممن يعرفون ماضي العراق وأهله نعلم إن أثراً كبيراً لوقوع العراق تأريخياً بين أعظم إمبراطوريتين في العالم هما إمبراطورية فارس الصفوية ذات المذهب الشيعي وإمبراطورية بني عثمان السنية المذهب وما جرى بينهما من حروب وسعيهما لأمتلاك بلاد الرافدين. أثر على ديموغرافية العراق.ولكن العقلنة ووضوح الرؤيا لدى المرجعيات الدينية والأجتماعية أدارت الدفة بحكمة وإتزان. فتجاوز الشعب الأحتقان الطائفي والعرقي بجدارة .وسما على هذا وعاش بأمان ومحبة.

ومن مظاهر التعايش السلمي في العراق هو تولي شخصيات من اليهود ومن المسيحيين مناصب رفيعة في الدولة العراقية, وبخاصة في العهد الملكي الزاهر.كما إن منصب رئاسة الوزراء في العراق أُسنِدَ أغلب الأحيان الى شخصيات سنية ولم يحدث أن إحتج العراقيين  على هذا أو رفضوه. لأنه لم يكن هاجسهم كما يجري اليوم, بعد أن نجح البعض في إستغلال الظروف الراهنة المتأتية عن الإحتلال من قبل قوات أجنبية بذرائع غير مشروعة. ساهمت به أطراف إقليمية حاقدة على العراق وأهله .بعد أن أذاقت هذه القوى الأقليمية والدولية الشعب العراقي الويل بحصار جائر لا لذنب إقرفه, بل مستغلة تصرف حاكم, هي من دفعه وشجعه على شن حروب داخلية أولاً على شعب العراق, ثم أغرته بغزو الكويت المبرمج والمخطط له.ليسهل عليها تنفيذ أجندتها وتحقيق مأربها بالتواجد العسكري في المنطقة. وتمزيق العراق وإذلال شعبه.

وجراء هذا الحصار ثم الغزو والأحتلال تحقق لأعداء العراق ما يرجون من إختلال الأمن وإنتشار البطالة والفقر؟ فتمخض هذا عن تفشي ظاهرة العنف بأنواعه النفسي واللفظي والجسدي, حيث تطورهذا الأخير الى القتل والتفجير والتهجير والذبح على الهوية. فسَهُل على ضعاف النفوس من ذوي الأيدي المأجورة أو مِنْ مغيبي العقول الذين باعوا الضمائر ,فوجدوا ضالتهم بمن يرتضي لنفسه أن يقتل أبناء جلدته بأربعمائة دولار أجراً لوضع عبوة ناسفة في سوق يرتاده فقراء الناس, أو مكان تجمع لعمال الأجرة, كما شاهدنا على شاشات التلفزة.

فالفقر حاضنة مفتوحة للرذيلة والأجرام فمنها ينطلق من يقتل أو يروج للمخدرات أو لهتك الأعراض وبيع الأجساد فالجوع كافر والفقر أكفر.

 يَهون الأمر على الفقير والجائع والعريان عندما لا يتمكن من توفير قوت عياله وهو يرى ويسمع كم الفساد المالي الهائل  والسرقات والتلاعب يجريان على قدم وساق وملفات خطيرة مخفية وقضاء عاجز عن فرض القانون ومجرمين وإرهابيين عتاة يهربون من السجون بسهولة.فيستسهل الأجرام ويبرره لنفسه بعد أن ضعفت, وكما يقول المثل يا روح ما بعدي روح.فيمتهن الأجرام ويقع في براثن الأرهابيين, سواء كانوا قتلة أم سراق.فمن يسرق مال الشعب  إرهابي أيضاً لأن يسرق مالاً من الممكن أن يُشبِع الجياع بعد توفير فرص عمل لهم فالسارق هو من دفعهم وأوقعهم في براثن الأرهاب .وإن من يروج للمخدرات أو المتاجرة بالرقيق الأبيض وإستغلال حالة فقر الفتيات ورميهم في الرذيلة هو إرهابي يدمر المجتمع وبُناه الأخلاقية.

لقد تمكن العنف والأرهاب من نفسية الشعب العراقي وأثَّر بطباعه وبات          الكثرة يؤمنون ب( أنا شعليه) بعد أن تملكهم الرعب والخوف فصار العراقي لا يهتم إلا بسلامته وسلامة عائلته ولا يكترث لأي خطر يداهم شعبه.وبودي أن أسرد حالة عشتها شخصياً عندما زرت أحد الأصدقاء عام 2008 في داره بأحد أحياء بغداد ووجدته خائفاً حائراً فسألته عمّا به. فقال لي لقد شاهدت قبل ساعة إثنين يحفران قرب رصيف الشارع المتقاطع مع شارعنا هذا. وأشك إنهما قد وضعا عبوة ناسفة. لأن هذا الطريق تسلكه دوريات الشرطة دائماً. فسألته ولماذا لم تخبر الجهات المختصة؟ فأجاب إن العبوة بعيدة عن دارنا ولا شأن لي بها. لأنها لن تلحق بنا أي ضرر. فقلت له أين ولدك فلان وأين بنتك فلانة؟ فقال هما في الكلية. فقلت له ماذا إن صادفت عودتهما من هذا الشارع عند إنفجار العبوة؟ وهنا بُهِتَ الرجل وضرب كفاً بكف. وراح يبحث عن موبايله ليتصل بإبنه وإبنته. وأخبرهما بوجوب تأخرهما عن القدوم وأن يتجها الى دار عمهما في حي آخر, حيث خاف أن يخبرهما الحقيقة. إن الرعب والخوف أخرس اللألسن, وأناخ بكلكله على العقول.فلم يعد الجار يهرع لنجدة جاره إن داهمه خطر الأرهاب.وكم من مرة سمعت من أفواه رجال ونساء إنهم رأوا من شبابيك بيوتهم أشخاصاً ملثمين ينحرون بسكاكينهم رقاب أبرياء.ولكن لا مجير ولا منقذ ولم يطلب أحد من الجوار النجدة لأنقاذ مَن يُنْحَر فالكل هلعٌ خائفٌ خائر القوى من شدة سطوة الأرهاب.والأدهى والأمر ما يتناقله البعض من أن بعض مفارز الشرطة أو السيطرات لا تستجيب للإستغاثات وتتلكأ عن النجدة خوفاً من سطوة الأرهاب.فقد أخذ الخوف بلبهم وحشرهم في زاوية الجبن والأستسلام. ونسوا أن الأمان مشترك ولا يتحقق إلا بالمشاركة النابعة عن الشعور بالسؤولية لا بالتهرب منها.ونسوا إن الإرهاب إن لم يطلْهم اليوم فربما غداً أو بعد غد .وأن النخوة والشرف في النجدة.وأن الجُبْنَ مَنْقصة وعار.ولكن الرعب والخوف غيَّر المفاهيم وقلب الموازين ودَجّنِ الشجعان.

وأما الفساد المالي وشيوع الرشا فبات أمراً طبيعياً بدون خجل أو حياء, بعد أن كان مُعاباً وبدل أن يساهم الفرد بالأبلاغ عنه بات يشجعه ويمارسه بحجج واهية غير منطقية مخالفة للأخلاق والشريعة.    

لا يختلف شعبنا عن بقية الشعوب فقد جرت صراعات أخرى في إيرلندا بين الكاثوليك والبروتستانت.وصراعات أخرى في البوسنا وغيرها. وحلت جميعها إما بالأنفصال أوالحوار و التعايش السلمي. ولم تحلها الحروب والعنف.ولم تُحل بالإعلام والإجراءات السطحية, وإنما بالحوار والمعالجات الحقيقية المدروسة وإشاعة ثقافة السلم الأجتماعي والشعور بالمسؤولية المشتركة عن أمن الوطن.  

فلا بد لأولي الأمر من دولة ومرجعيات دينية وإجتماعية وأكاديميين ومثقفين, الدلو بدولهم في ما يمر ببلدنا من عنف إرهاب , حرق الأخضر واليابس, سيّما بعد أحداث سوريا المصطنعة والمخطط لها منذ عقود المدعومة دولياً من قوى الظلام العالمي الحاقدة على الأسلام والعروبة والمسنودة من الحكام القبلين الذي تستند شرعية حكمهم لمنطق الغزو وإستحقاقاته, من عربان الخليج. ولا بدَّ من دراسة الأمر دراسة سيسيولوجية واقعية براكماتية متحضرة ,ومعالجة الموقف لأن الأرهاب والعنف لا يمكن معالجته بالمعالجات الأمنية والعسكرية فقط , بل بمعرفة أسباب تفشيه وكيفية معالجته التي من أولوياتهاالتوافق والعدل و توفير فرص العمل والقضاء على و الفساد والجهل و الفقروالمرض. فالفقر أين ما ذهب يقول له الكفر خذني معك . وهذا لن يتم إلا بإجتماع الكلمة ومساندة الشعب كافة للدولة وقواها الأمنية. لأجتثاث الأرهاب بكل صوره من الجذور.هناك حاجة مساسة وملحةللتثقيف وإعادة المجتمع العراقي لما كان عليه من حب الوطن والحرص عليه, والتخلص مما زرعه الأرهاب من عدم إكتراث بأمان المجتمع فنحن بسفينة واحدة إن خُرقت غرق الجميع.