الدين‏..‏ والدبلوماسية‏..‏ وحلف الفضول.. بقلم/ الأستاذ الدكتور محمد عبد الفضيل القوصى







خيط رفيع يربط بين هذه الكلمات المتباعدة‏:‏ في سياق واحد‏!!‏ فهل يمكن للدين ـ بالمعني الشامل ـ أن يضطلع بمهمة موازية لمهمة الدبلوماسية في هذا العصر المائج المضطرب الذي انغمست فيه الانسانية في أتون النزاعات وسعير الأزمات؟

هل يمكن للدين ـ بالمعني الشامل ـ ان يشحذ في البشرية ذلك الشعور المرهف بظلم المظلومين‏,‏ وقهر المقهورين وضعف المستضعفين‏,‏ وذلك الإحساس المؤرق بويلات الحروب والنزاعات‏,‏ ومآسيها وشرورها؟ هل يمكن للدين ـ بالمعني الشامل ـ أن يشيع الأمل في عالم أكثر إنسانية‏,‏ وأعمق خيرية‏,‏ وأكثر عدلا؟
طافت هذه المعاني في ذهني‏,‏ وأنا عائد لتوي من مؤتمر عالمي انعقد خصيصا لجمع المتحدثين عن الأديان علي كلمة سواء‏,‏ ولاستنهاض الهمم للقيام بدور أخلاقي وروحي فعال‏,‏ يبتغي مواجهة غرائز الشر‏,‏ واجتثاث نوازع القهر والانانية علي المستوي الفردي والاجتماعي والسياسي‏,‏ تلك الغرائز والنوازع التي انعكست علي صفحة هذا العالم‏:‏ حروبا ومجاعات وأوبئة‏,‏ وتلوثا بيئيا واخلاقيا‏,‏ علي نحو يوشك ان يطيح بهذا الكوكب‏,‏ وبمصير الحياة في ربوعه‏!!‏
طافت هذه المعاني بذهني‏..‏ وأنا استذكر سيرة النبي صلي الله عليه وسلم قبل البعثة‏,‏ ثم أتوقف عند حادثتين متتابعتين‏,‏ شهدهما عليه السلام في سن العشرين أو مايقاربهما‏,‏ وكان فيهما‏:‏ أمنا وسلاما‏,‏ وبردا وشفاء‏,‏ وهما‏:‏ حرب الفجار‏,‏ وحلف الفضول‏,‏ أما حرب الفجار‏:‏ فقد استعرت بين القبائل القرشية لأسباب مادية عارضة‏,‏ انتهكت فيها حرمات‏,‏ وسالت دماء‏,‏ ثم عقد علي إثرها حلف الفضول الذي اجتمعت فيه كلمة تلك القبائل علي إغاثة الملهوف‏,‏ وإعانة المظلوم‏,‏ وردظلامته‏,‏ حتي قال صلي الله عليه وسلم عن ذلك الحلف‏(‏ لو دعيت الي مثله في الإسلام لا جبت‏).‏
أليست البشرية ـ في عصرنا الراهن ـ بحاجة إلي حلف فضول معاصر يضم في إهابه جميع المتحدثين باسم الأديان بمفهومها الشامل‏,‏ بحيث يشكل هذا الجمع قوة دفع اخلاقية‏,‏ وروحية‏,‏ تنفث في دوائر السياسة والاقتصاد وغيرها‏:‏ تلك المشاعر الانسانية الرفيعة التي استلبتها قوي الغريزة والأنانية والعدوانية‏,‏ وتضع أمام الحكومات والمنظمات العالمية البديل الاخلاقي الغائب وتبصرها بالمصير البائس الذي ستؤول اليه البشرية لو أنها أغفلت ذلك البعد الاخلاقي والروحي المستكين في أعماق العقول‏,‏ وحنايا القلوب؟
وبعيدا عن الجدل اللفظي حول إمكان الجمع بين الدين والدبلوماسية‏,‏ فإن هذا الدور المأمور للمتحدثين عن الأديان بمفهومها الشامل‏,‏ تحوطه محددات شتي‏:‏
أولها‏:‏ أن ينأي المتحدثون عن الأديان ـ بمفهومها الشامل ـ عن النقاش حول العقائد‏,‏ أو إثارة الجدل في محيطها‏,‏ فالعقيدة للدين بمثابة الهوية تلك الهوية التي لا يجوز المساس بها‏,‏ أو الاجتراء علي قدسيتها‏.‏
ثانيها‏:‏ أن تجتمع كلمة أولئك المتحدثون علي خطورة التطاول علي مقدسات الأديان‏,‏ أو الإساءة الي رموزها ومعالمها‏,‏ فذلك مما يشعل نار الفتن‏,‏ ويلهب ضرامها‏!!‏
ثالثها‏:‏ أن يكون لهؤلاء المتحدثين ميثاق معقود يحدد أهداف هذا الدور المرتجي‏,‏ والذي يرمي في جوهره إلي إشاعة السلام والتسامح والتفاهم بين البشر‏,‏ كما يحدد الوسائل المشروعة التي تتخذ في سبيل تحقيق هذا الهدف وانجازه‏,‏ فالهدف النبيل لاغني له عن الوسيلة النبيلة‏,‏ والغاية في المجال الديني والاخلاقي لا تبرر الوسيلة‏!!‏
رابعها‏:‏ أن يكون للمتحدثين عن الأديان فلسفة أخلاقية تقوم علي دعامتين هما الحق‏,‏ والعدل‏,‏ وعلي أساس هاتين القيمتين الاخلاقيتين يقوم السلام‏,‏ كل السلام‏,‏ الروحي منه والعملي‏,‏ ان السلام المجرد عن العدل‏,‏ والعاري عن الحق‏:‏ صيحة في واد‏,‏ أو نفخة في رماد‏!!‏ وما فشلت محاولات السلام أو انتكست ـ علي مدي التاريخ البشري إلا لغياب إحدي هاتين الدعامتين أو كلتيهما‏!!‏
خامسا‏:‏ أن يتحلي هؤلاء المتحدثون ـ بأقصي قدر من الحيدة والتجرد‏,‏ والصبر والإناة‏,‏ وان يكون همهم الأكبر هو الاعلاء من شأن تلك القيم‏,‏ واستخدامها في رؤية الوقائع علي ضوء كاشف‏,‏ ينير ماخفي منها‏,‏ ويرسم الطريق الي توظيفها في تعديل المسارات‏,‏ وتوجيه الخطوات‏.‏
ثم أقول‏:‏ قد يكون في هذا الحديث قدر من الحلم‏,‏ أو ضرب من الخيال الملحد‏,‏ ولكنه تجسيد للقلق علي مصير هذا الكوكب الذي أتصوره يئن من أنات المظلومين والمقهورين‏,‏ وأمل عريض في أن يكون الدين هو الملاذ الذي تؤوب اليه البشرية‏,‏ والواحة التي ينتشر فيها عبق العدل‏,‏ والتعاطف‏,‏ والأمن والسلام‏.