الامام علي الهادي (ع).. نبراس للعلم ومقارعة الانحراف... جميل ظاهر |
* الامام أبو الحسن علي بن محمد الهادي (عليهما السلام) واحد من السلسلة الذهبية من آل بيت المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، حیث حفلت حياته بأسمى معاني الإمامة التي هي امتداد لخط النبوة، فكان لدى التقويم في الميزان، يرجع بجميع أهل ذلك الزمان. وقد اختلف المؤرخون بشأن تاريخ ولادته ، فقيل: وُلد (ع) في الثاني من شهر رجب، أو الخامس منه، وقيل: (في الليلة الثالثة عشرة منه، سنة 214هـ، وقيل: 212هـ. وقيل: كانت ولادته (عليه السلام) في النصف من ذي الحجة، أو السابع والعشرين منه في "صريا" من المدينة المنورة، وهي قريةٌ أسَّسها جده الامام الكاظم(ع) على بعد ثلاثة أميال من مدينة الرسول (ص)، حيث استقبلت المدينة المنورة ميلاد أول أبناء الامام محمد بن علي الجواد (عليه السلام)، وعمَّ البيت الهاشمي فرح عظيم، فسمّاه والده علياً باسم جده الرضا وجده الأكبر أمير المؤمنين عليهم السلام أجمعين، وكناه ب"أبي الحسن" ومشت ألقابه الكريمة تعبر عن محياه الكريم وسيرته الزكية، فكان النجيب والمرتضى والهادي والنقي والعالم والفقيه والأمين والمؤتمن والطيب والمتوكل. وعندما انتقل إلى مدينة سامراء وسكن محلة كانت تسمى (عسكر) سمي أيضاً ب"العسكري" أو "الفقيه العسكري". وتقلد الامام علي الهادي (ع) أمور الامامة وهو في أوائل السنة التاسعة من عمره الشريف ، فتصدر يومها مجالس الفتوى بين أجلاَّء العصر ومشايخ الفقهاء، وبهر العقول بعلمه وفضله، ثم حمل أعباءها طيلة ثلاث وثلاثين سنة في عصر مليء بالظلم والغش والنفاق والانحراف، أخذ منه ومن شيعته بالخناق والقمع، ولكنه استمر على أدب الله عز وجل، وسيرة رسوله (ص) ونهج آبائه (عليهم السلام) لا يمالئ حاكماً، ولا يهادن ظالماً، بل يقوم بما أنتدب إليه، في قصر السلطان، ومجالس الحكم، وبين الأمراء، وفي كل مكان، يعيش صراحة الدِّين، ويجانب الباطل بجرأة لا يكون لها نظير إلاَّ عند المنتجب من الله تعالى للولاية على الناس. منسجماً مع أمر السماء التي استسفرتهُ لكلمتها، وقائماً بقسط الوظيفة التي خلعت عليه سربال ولايتها، مثبتاً أنه على مستوى ذلك الأمر في ذلك العصر، تماماً كالسفير الذي لا يخرج عن خط دولته، ويدل صدقُه مع وظيفته على حفظ كرامة الدولة التي سنحت عليه بما وضعته بين يديه من إمكانيات، ليستطيع تمثيلها حقاً وحقيقة. وقد عانى الامام علي الهادي(ع) الكثير من خلفاء بني العبّاس، فقد عاش مع "المعتصم" في بقية خلافته، ثم ملك "الواثق" خمس سنين وسبعة أشهر، ثم ملك "المتوكّل" أربع عشرة سنة. ولم يعش إمامنا الهادي (ع) عمراً طويلاً، ولكنه قضاه حافلاً بجلائل الأعمال والأقوال، وبما أتى من الحق في مجالس أهل الباطل، وبما كرّس من العدل في مواطن الظلم، وبما أرسى من الإيمان ورسّخ من العقيدة التي ينبغي أن يُدان الله تعالى بها، فزاد أتباعه زيادة ملموسة حتى أنه كان يعج بهم قصر الخلافة سراً وظاهراً، وكانوا ينتشرون في الجيش بين قوَّاده وأفراده، مضافاً إلى كثيرين من أفراد الرعية والولاة. فقد كان عمره الشريف يوم رحيله شهيداً بسم الغدر والخيانة للمعتز العباسي إحدى وأربعين سنةً، ودفن في داره بسر من رأى (سامراء) وقبره اليوم ينافس السماء علواً وازدهاراً، تعلوه أكبر قبة ذهبية في العالم، حيث استعمل في بنائها قبل ان تطالها يد الغدر والخيانة والتطرف الهمجي الوهابي قبل سنوات وتفجره،72000 ألف طابوقة ذهبية ، ويزدحم المسلمون من شرق الأرض وغربها لزيارته والتسليم عليه، والطواف حول ضريحة الأقدس، والصلاة في حرمه المشرق. وقد عاش حياته عليه السلام في نشاط دائم متحرّك في الثقافة الاسلاميّة، فكان يعلّم الناس، ويعلّم العلماء منهم، حتى ذُكِر أنَّ الذين رووا عنه علومه بلغوا ما يقارب المائة وخمسةٍ وثمانين راوياً، والراوي عادةً يمثّل موقعاً ثقافياً متقدماً في ذلك الوقت، وقد روى المؤرخون أنَّ من ثقاته: "أحمد بن حمزة بن اليسع، وصالح بن محمد الهمداني، ومحمد بن جزال الجمّال، ويعقوب بن يزيد الكاتب، وأبو الحسين بن هلال، وإبراهيم بن إسحاق، وخيران الخادم، والنضر بن محمد الهمداني. ومن وكلائه: جعفر بن سهل الصّقل. ومن أصحابه: داود بن زيد، وأبو سليمان زنكان، والحسين بن محمد المدائني، وأحمد بن إسماعيل بن يقطين، وبشر بن بشّار النيشابوري الشاذانيّ، وسليم بن جعفر المروزيّ، والفتح بن يزيد الجرجانيّ، ومحمد بن سعيد بن كلثوم، ومعاوية بن حكيم الكوفيّ، وعليّ بن معد بن معبد البغداديّ، وأبو الحسن ابن رجا العبرتائي". وتحرّك الامام الهادي(ع) في الحياة يراقب ويتصدّى لكلِّ الانحرافات التي تعرّض لها الواقع الاسلامي، لأنَّ مسؤولية الأنبياء والأولياء والعلماء في كل زمان ومكان، هي أن يدرسوا كل الخطوط التي تتحرك في الثقافة الاسلامية أو في الواقع الاسلامي، ليصلحوا الخطأ، وليقوّموا الانحراف بالأساليب التي وضعها الله سبحانه وتعالى في كتابه، بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن. وقد واجه الامام الهادي(ع) كثيراً من المشاكل الفكرية التي كانت قد فرضت نفسها على الذهنية الاسلامية لتنحرف بها عن الصواب، فقد حدثت في زمنه مشكلة الذين يقولون بالجبر، وأنَّ الله تعالى أجبر عباده على أعمالهم، فليس للعباد اختيارٌ في ما يطيعون أو يعصون، فالطاعة من الله والمعصية منه. وكان هناك اتجاه التفويض الذي يقول إنَّ الله تعالى فوّض الأمر إلى خلقه، فهو خلقهم وانعزل عنهم، أو فوّض الأمر إلى بعض خلقه، بمعنى أنَّ الله تعالى خلق الناس وجعل الأمر للأنبياء مثلاً، فلا يتدخّل في شؤون النّاس، ولكن تبقى قدرة الله وهيمنته وتدبيره للناس، بما لا يبعدهم عن رعايته وتدبيره وسلطته. كان أصحاب هذين الاتجاهين بحسب الظاهر خارج المدينة، فأرسل الإمام الهادي(ع) رسالةً شارحاً لهم حقائق الأمور، ومبيِّناً لهم بالدليل من العقل والنقل بطلان الجبر والتفويض، ودعاهم إلى الاستقامة في خطّ الله سبحانه وتعالى، كما واجه الغلاة الذين حاولوا أن يحرّكوا خرافاتهم في الذهنية العامة، وخصوصاً أنَّ كثيراً من الذهنيّات التي تعيش في المجتمع هي ذهنيات طيّبة تقبل كل شيء، وهذا يحدث في كل زمانٍ ومكان. |