لم افرح بمرض احدهم يوماً، كما فرحت بمرض الأستاذ عبد الستار ابو التاريخ.
كان ذلك قبل ثلاثين عاما ونيّف، يوم كانت الحرب العراقية الإيرانية في أوجّ اشتعالها، وكان معلم مادة التاريخ الاستاذ عبد الستار بعثياً طازجاً "ياكل حرية ويتريع اشتراكية".
يومها كنا نتحضر لدخول امتحان مادة التاريخ للصف الخامس ابتدائي، ورغم ان تاريخ الخامس ابتدائي كان يتحدث آنذاك عن الإنسان القديم وحياته في الكهوف، إلا ان معلم المادة اعني الرفيق ستّوري "كما نطلق عليه" قلبها حضارة وأمجاد.
كان يملي علينا قصصا وحكايا تتحدث عن تاريخ العراق المجيد وحضارته العتيدة، وبين سطر وسطر يذكّرنا بأن بناة حضارتنا العظيمة هم اجداد الرفيق القائد المناضل صدام حسين حفظه الله ورعاه.
لا زلت اذكره ببدلته السفاري، وهو يمسك عصا طويلة ويابسة، يخفيها خلفه ويسأل (ما هي انجازات نبوخذنصر العظيم؟) فمن يجيب نجا، ومن يتلعثم بالجواب "فهاي الكتبها الله عليه".
ليلة الامتحان لم افتح الكتاب البتة، ولم اقرأ الملزمة واكتفيت بالبكاء، لأني ودعت وقتها والدي الى جبهات القتال، حين سيق عنوةً في قاطع جيش شعبي الى شرق البصرة.
اتجهت ليلتها صوب المسجد وقلت في سري "وينك يا جامع المومنين مرّض ستّوري ابو التاريخ وخلصنا من الامتحان باچر"
اي والله هكذا دعوت عليه دعوة طفل صادق فاقد، وبضربة من ضربات الحظ استجيب دعائي.
ففي اليوم التالي تفاجئنا عندما دخل علينا الاستاذ چاسب معاون المدير وهو يقول: ابقوا في الصف والتزموا الهدوء فامتحان التاريخ اصبح لاغياً، لأن الأستاذ عبد الستار تعرض لوعكة صحية.. الله الله ما احلاه من خبر وما احلاه من جامع يستجيب الدعاء بسرعة البرق.
لقد انقلب يومنا عيدا وتطافرنا فوق المناضد نتراقص "ستّوري إلبد جاك الواوي" اهزوجة اطفال لا يفقهون ما يقولون.
مشكلة ستوري ابو التاريخ ليست في امتحان شهري يمكن تعويضه فيما يأتي من الأيام، ولكنها في طريقة تدريسه للتاريخ!
هو يريد ان يفهمنا قهراً بأننا اصحاب افضل تاريخ في الكون، واصحاب اعظم حضارة في التاريخ، وأن العالم كله كان خدماً عند اجدادنا.
ستّوري يريدنا أن نلهج بعبارة "العراق ابو الحضارات وأساس الكون واعظم بلد بالعالم" دون ان يقدم لنا دليلاً عملياً على ذلك.
انا لا ألومه بالطبع، فهو كما الكثير، فهم الحضارة مسلةً لا ندري اين حل بها الدهر، وزقورةً تعيث فيها الأرَضة، وطابوق ابو السيم مدروز بالقير يطلق عليه بهتاناً جنائن معلقة... الخ من شواخص ربما لا يدري اين تقع!
مسكين ستّوري لا ادري اين حلّ به الدهر، لكن صورته قفزت الى ذهني وانا اتابع ابنتي الصغيرة سارة. كانت تؤدي الواجب البيتي لمادة التاريخ التي هي جزء من درس المجتمع للصف الرابع الإبتدائي.
كان واجبهم البيتي: صف المجتمع المتحضر بنقاط، فكتبت سارة بإيعاز من معلمتها الجميلة ريناتا:
اولاً: حب العمل.
ثانياً: احترام خصوصيات الآخرين.
ثالثاً: الوقوف بالدور على باب الحافلة.
رابعاً: عدم رمي اعقاب السجائر في الطريق.
خامساً: الألتزام بالقوانين واللوائح.
هذه خمس نقاط استنتجتها سارة من كلام الست ريناتا حول سمات الشعوب المتحضرة، كتبتها وهي مقتنعة تماما بأنها تعني الحضارة.
خمس نقاط خفيفة وبسيطة لو ان ستوري ابو التاريخ علّم كلاً منا خمساً مثلها لأصبحنا شعباً متحضراً قولاً وعملاً.