مشتركات عربية

 

منذ العام 2003، عام التغيير (هل هذا الاصطلاح حيادي بما فيه الكفاية؟) في العراق، ومروراً بأعوام الربيع العربي (وماذا عن هذا الاصطلاح؟)، وأنا أراقب ردّات الفعل الشعبية في أكثر من موضع، ولشدّة استغرابي أكتشفت أن بيننا وبين أشقائنا الكثير من المشتركات التي ثبتّتها ردّات الفعل تلك.. وسأحدثكم عن بعضها.

في العراق أتهمت جهات "مجهولة" المثقفين والفنانين فيه بأنهم من أتباع النظام السابق. تعرّض بعض الفنانين للضرب في الشوارع، وآخرون قتلوا. ولم يسلم من هذه "الشبهة" إلا من غير جلده وانقلب على عقبيه ليكون نصيراً وناصراً لحكّام اليوم ومنهجهم. أما في دول الربيع العربي فقصص تخوين الفنانين في سوريا ومصر وتونس أكثر من أن تعد. مناسبة هذا الكلام: الاعتداء مؤخراً على الروائي المصري علاء الأسواني.

ومن المشتركات المثيرة بين العراق ودول الربيع، أيضاً، اعتبار عناصر الجيش، السابق، جزءاً من مؤسسة قمعية تابعة للديكتاتور. لا يهمّ هنا أن تكون جندياً أو جنرالاً، قاتلاً أو سائق ماطورسكل! الجميع خونة يستحقون العزل، والاجتثاث، حالهم حال أعضاء الحزب الحاكم، وهذا الأخير قصته قصة!

قرأت الكثير عن قرار الحاكم الأميركي بول بريمر بحلّ الجيش العراقي، قرأت عن تأييد جهات عراقية، واعتراض جهات أخرى، كما قرأت عن تبرير أميركي، ولوم دولي، وفي كل الأحوال، ينسب تزايد العنف في العراق، بعد العام 2004 إلى هذا القرار، ذلك أنه، وبعبارة واحدة: استطاع استعداء مئات الآلاف من البشر بجرّة قلم. مثل هذه المشكلة حاضرة اليوم في غير دولة عربية.

وبعيد انهيار الديكتاتورية تبزغ في الدول موجة الفضائيات. العراق يمتلك اليوم أكثر من سبعين فضائية. قل الأمر نفسه عن مصر وليبيا وتونس، بل أن سوريا، وما زال نظامها الديكتاتوري موجوداً، فرّخت لحد الآن أكثر من عشرة فضائيات. السؤال هنا: من أين يأتي المال؟ سيتسرّع قارئ باتهام السعودية، حالة سوريا مثلاً، ولكن هذا القارئ لم يستخدم عقله كفاية فينظر ذات اليمين وذات الشمال ليكتشف أن المال قادم من جهات الأرض الأربعة للإطاحة بأي أمل مستقبلي. وإلا، قل لي بربك: لم تتناسل الفضائيات التي تبث: 1. الأغاني 2. الرقص 3. المسلسلات والأفلام العنيفة 4. أرقام هواتف المراهقين وفرص الزواج الشرعي! 5. وأخيراً: الفضائيات التي يقودها ويظهر فيها رجال دين من مختلف الطوائف والملل وهي تروج، بكثير من الحدّة والخشونة، لمناهج دينية بعيدة تماماً عن التسامح.

هذه المشتركات، وثمة غيرها كثير، تضع واحداً مثلي، كثيراً ما يراجع نفسه، في مأزق أخلاقي. كيف؟

من الواضح جداً أن شعوبنا العربية، التي تعرّضت لقهر وتنكيل مؤلم استمرّ لأكثر من نصف قرن، عبر النموذج القومي القادم عبر الدبابة، والمدعوم بشكل أو بآخر، من قبل الآخر (ضع تسميته، أو توصيفه، بنفسك)، تريد أن تثأر لنفسها، وصادف أن الآخر، الذي نتحدث عنه، استطاع أن يعزل الأنظمة وأدواتها عن الجمهور، فصار من اللازم لأي ثورة أو تغيير قادم أن يقتلع المنظومة الحاكمة كلها (قرأت مثل هذا الكلام كثيراً وبأقلام كتّاب متحمّسين للتغيير في بلدانهم)، وسيتطلب ذلك الكثير من الظلم الجديد، والقهر الجديد، وبالتالي إعادة إنتاج التجربة الماضية ذاتها. نحن نشهد اليوم، في العراق، مثل هذه القصة العجيبة!

نعم، نحن والأشقاء نمتلك الكثير من المشتركات، ولكننا بحاجة إلى مشترك جديد، ومهم للغاية، ومفاده: الانتقال إلى عصر السلام والتسامح.