الإسلام الفرنسى .. بقلم/ د. محمود عزب (مستشار شيخ الأزهر للحوار)







كثيرًا ما ينزعج المسلمون فى بلاد العالم الإسلامى من سماع عبارة الإسلام الفرنسى، ويرد على الفور وبغضب غالبًا: ثمة إسلام واحد، والواقع أن هذه العبارة لا تدعو إلى التفرق ولا الانقسام والواقع أيضًا أنه يراد بها الإسلام الذى يعيش حاملوه فى فرنسا، فى المجتمع الفرنسى وهم جزء لا يتجزأ من مواطنى الجمهورية وهم أنفسم يؤكدون ذلك، وهم يتكلمون الفرنسية لغتهم الأم ويتعلمون اللغة والأدب والتاريخ والحضارة الفرنسية والفكر والفلسفة فى الجامعات والمدارس والمعاهد، وينخرط شبابهم فى الخدمة العسكرية الفرنسية، وهم أحفاد جان جاك روسو، ومونتسكيو، وباسكال، وديكارت، وفيكتور هوجو وجون بول سارتر.. وهم يتخذون الإسلام دينًا سواء ولدوا به من آباء مسلمين أو دخلوا فيه عن طواعية واختيار. وفهمهم للعقيدة والقرآن والعلوم الإسلام يأتيهم من خلال اللغة الفرنسية وتؤثر فيه مواريث العقل الفرنسى. تمامًا مثل المسلمين المصريين وثقافتهم المتراكمة عبر التاريخ ومثل المسلمين السعوديين وثقافتهم بما لها من خصوصيات، ومثل المسلمين الشيعة فى إيران وغيرها.. فاللغة والثقافة والميراث الحضارى لشعب من الشعوب داخلة كلها فى تكوينه عمومًا ومن ضمنه التكوين الدينى.. ويجب علينا أن نقبل التنوع الذى لا يؤدى إلى أى ضرر، لا بالإسلام ولا بالمسلمين، وعلى النقيض من ذلك نرى أن عبارة الإسلام فى فرنسا " قد تكون سلبية توشئ بأن الإسلام وارد أو غريب أو ضيف مؤقت سوف يرحل أو يعود من حيث أتى والحقيقة تجانب ذلك.

والذى يطالع "تخليص الإبريز" للشيخ رفاعة يرى أنه لم يلتق بكثير من المسلمين أول هبوطه إلى مدينة مارسيليا ويرى الأمر كذلك فى باريس حاضرة الفرنسيين. أما اليوم فالمسلمون الفرنسيون والإسلام فى فرنسا – كما سنرى – أصبح يشكل واقعًا حيًا وملموسًا ففى فرنسا فى شتى أنحائها مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا. ولكن كيف تكون هذا الإسلام فى فرنسا بهذا الكم الكبير؟

إذا بحثنا عن بدايات استقرار الإسلام، وظهور مسلمى فرنسا فسنرى موجة الهجرة الكبرى الأولى آتية من شمال إفريقيا بين عامى1920و 1924 عقب الحرب العالمية الأولى. وتقول بعض التقديرات ان عددهم وصل إلى 120 مائة وعشرين ألف مسلم ينتمى معظمهم (100 ألف إلى الجزائر)، ثم عشرة آلاف إلى المغرب الأقصى ومثلهم إلى تونس. وقد وفدوا أو استوفدوا لإعادة إعمار فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى. ويضاف إلى هذا العدد وافدون آخرون لاجئون من الجزائر خصوصًا كانوا من أنصار فرنسا إبان حرب التحرير يقدرون بواحد وتسعين ألفا، كانوا يسمون "الحركيين" ولهم قصة مأسوية لا مجال لذكرها هنا، وقد منحوا حق الهجرة خلال عامى 1961-1962 كما كان بين العائدين إلى فرنسا من شمال إفريقيا داخل الحياة الثقافية والإعلامية وربما السياسية على وجه الخصوص.

 

كان المهاجرون الأوائل من العمال فى أغلبيتهم او كلهم، وظلوا على اتصال ببلادهم الأصلية، ثم لحقت بهم أسرهم إلى فرنسا وفى عام 1974 طالبوا بحق الجنسية الفرنسية.

أما الجيل الثانى المولود فى فرنسا، فرغم أنه ولد فرنسيًا إلا أن أبناءه يشعرون غالبًا بأنهم مهاجرون، وكثيرًا ما يرون أوطان آبائهم وأجدادهم أوطانًا لهم.. وخلال البحث عن الذات كثيرًا ما يتخذون الدين وطنًا وملجأ، فى مواجهة تهميش فرنسا لهم، بينما ينصهر البعض انصهارًا تامًا فى المجتمع الفرنسى ويتخلون عن كل الموروثات الدينية والثقافية. تقول ذلك البحوث الجامعية ومنها رسالة دكتوراة للسيدة لميس عزب حول شباب ضواحى باريس المسلمين بين التهميش والبحث عن الهوية ونوعية الخطاب الدينى الذى يتلقونه من داخل فرنسا ومن خارجها.

 

والإسلام هو الديانة السماوية الفرنسية الثانية عددًا وأهمية بعد الكاثوليكية. وأما عدد المسلمين اليوم فهو يتراوح ما بين 3 ملايين (طبقًا لدراسات ديموجرافية)، وبين 8 ملايين (طبقًا لتقديرات يهودية ويمنية متطرفة) ويقول البعض ان تضخيم العدد ليس بريئًا، وقد تشم منه رائحة تخويف فرنسا من الإسلام.

أما الإحصائيات التى تقترب كثيرًا من الصحة والصادرة عن الحكومة الفرنسية ذاتها والتى تتفق مع آراء جمعيات وتنظيمات إسلامية، فتقول عن العدد يناهز خمسة ملايين، من بينهم حوالى ثلاثين ألفًا من الفرنسيين الداخلين فى الإسلام، بينما يصل البعض بالعدد إلى عشرة أضعاف.

وقد تم انتخاب المجلس الفرنسى للديانة الإسلامية وتشكيله منذ ديسمبر 2002، ويرأسه السيد دليل أبو بكر، وهو جزائرى الأصل، ولكن تتنازعه الانشقاقات والخلافات، فهو مجلس شبه ممزق تتقاذفه فى الغالب أهواء سياسية.

كما تتنازع شباب المسلمين فى فرنسا أهواء وشيع وتوجهات كثيرة تنعكس عليهم غالبًا من العالم الإسلامى الخارجى، ففيهم شيعة وسنة، وصوفيون، ووهابيون، ومحافظون، ومتعصبون ومعتدلون وأولو علم وأولو جهالة، ومتطرفون وغير ذلك، فهم شأنهم شأن الكبار غير متماسكين وغير مترابطين فيما بينهم ولا ننسى