البصرة تبحث عن متاحفها

 

 

 

 

 

 

مما لا اختلاف فيه أن البصرة, وهي على طبيعتها المائية المينائية, تعد من أكبر المتاحف البحرية وأقدمها, فهي المدينة العربية الوحيدة, التي تحيط بمركزها المرافئ والممرات الملاحية كما يحيط السوار بالمعصم, وتدور حولها المسالك المخصصة لمرور السفن, حتى تبدو للناظر وكأنها جزيرة أسطورية خضراء تستلقي على ضفاف شط العرب, وتتغذى من سواقيه وجداوله. 
جزيرة يتوسطها شط البصرة ومصبه العام, وتكتحل عيونها بمجرى (كرمة علي), وتتزين واجهاتها البحرية بخور عبد الله وخور الزبير, وتتناثر موانئها بين شرقها وغربها وشمالها وجنوبها. . كانت هي النافذة الأولى, التي أطل منها سكان الخليج على الثقافات الهندية والصينية والأفريقية والأوربية, وتواصلوا من خلالها مع خطوط الشحن الدولية, وكانت مراكبها وسفنها هي الأساس المتين في تثبيت عمود الاقتصاد شرق الوطن العربي, وهي الحافز لنموه وازدهاره, وكانت البصرة هي جسر العالم القديم للعبور إلى القارات الثلاث, والرابطة المحورية لمعظم حلقات التواصل في التبادل التجاري مع موانئ المحيط الهندي وبحر الصين, وهي الينبوع الذي انطلقت منه المهن والفنون والحرف البحرية, وقام عليها المجتمع في حوض الخليج, وشيد بها ثقافته ومعارفه.
أن أي مدينة مينائية بهذا المستوى الحضاري, وبهذه الخلفية التاريخية الزاخرة بالمواقف والأحداث والنشاطات البحرية, تستحق أن يكون لها متحفها البحري المتميز, لكنك لن تجد اليوم مثل هذا المتحف في ربوع البصرة وضواحيها. على الرغم من أنها كانت أولى المدن الخليجية, التي أحرزت قصب السبق في إنشاء المتاحف البحرية وتأثيثها بالنفائس, وجاءت خطوتها الأولى بمبادرة من جامعة البصرة في عصرها الذهبي, وتجسدت هذه الخطوة على ضفاف الكورنيش في متحف التاريخ الطبيعي, الذي كان يضم مجسمات حقيقية لأكبر الحيتان الوافدة إلى مياهنا الإقليمية, اما المبادرة الثانية فكانت عن طريق قيادة القوة البحرية والدفاع الساحلي, التي خصصت إحدى سفنها الحربية الخارجة من الخدمة, وكان اسمها (الجاسي), فوظفتها للعمل كمتحف بحري عائم في مدخل نهر العشّار, على بعد بضعة أمتار من تمثال السيّاب, ثم انهالت حمم الأهوال والمصائب والنكبات فوق رأس البصرة, وتعرضت منشأتها للدمار والتخريب, فغرق متحفها العائم, ونُهبت محتوياته, وتهدم متحفها البحري الطبيعي, ودُمرت نماذجه الثمينة النادرة, فتعطلت ذاكرتنا البحرية التراثية, وانقطعت صلتنا بماضينا البحري الجميل, في الوقت الذي سارعت فيه الكويت إلى اختيار بيت اثري من بيوتاتها القديمة, وهو بيت (عبد الرحمن حسن المدفع) القريب من البحر, وجعلت منه في عام 2003 متحفا للتراث البحري, وحققت الشارقة قفزة نوعية هائلة من خلال إضافة اللمسات التقنية الحديثة على متحفها البحري, الذي صار من ابرز المعالم السياحية في الإمارات, ثم قام مواطن كويتي لوحده (نواف عبد الله حسين العصفور), وبإمكاناته البسيطة المحدود, بافتتاح أجمل المتاحف البحرية التراثية, وأكثرها صدقا وتألقا. 
تعد المتاحف في المدن المتحضرة ذات التاريخ العريق, من أهم الواجهات الحضارية, التي تحفظ تاريخ المدينة, وتحمي ثقافة أهلها, وتعكس كفاحهم وأصالتهم, وتعبر عن مدى احترامهم لآبائهم وأجدادهم, الذين سطروا صفحات ماضيهم المزدان بالكفاح والعطاء والوفاء. 
لا خيار أمامنا بعد هذا الاستعراض المبسط سوى اللجوء إلى مجلس محافظة البصرة, الذي يمتلك وحده زمام المبادرة لوضع الحجر الأساس لبناء المتحف البحري, والحفاظ على تراثنا الملاحي وتاريخنا المينائي, وتجسيد أساليب حياة الأجداد في صناعة السفن والقوارب, وفي ممارسة مهنة الصيد البحري والنهري, والحرف الأخرى المرتبطة بالبحر, وجمع التراث الملاحي البصري, وحمايته من الضياع, وعرضه على الناس في أبهى صورة بغرض التثقيف والتعريف, وغرس روح الانتماء إلى الحضارة العراقية الأصيلة, التي علمت البشرية ركوب البحر, وعلمتهم مبادئ الملاحة وفنونها, وحبذا لو احتوى المتحف على المعدات اليدوية القديمة, التي استخدمها العراقيون في هندسة بناء المراكب الخشبية, والسفن الشراعية, والقوارب والأبلام والمشاحيف, وحبذا لوا استعرض المتحف نماذج وصور لسفن وقوارب التجارة والصيد, ونماذج حديثة أخرى تحاكي سفن الأسطول العراقي, الذي تمتلكه المؤسسات العراقية, وحبذا لو نال المتحف المزيد من الرعاية والاهتمام ليكون منبرا بحريا, ومركزا تعليميا, تنظم فيه الدوارات التراثية التعليمية, والورش الفنية التقليدية, وتتشح جدرانه بالألوان البحرية المشبعة بنكهة الخليج وشط العرب, وتزينها مجسمات للأسماك والكائنات البحرية والنهرية, ويخصص في المتحف قسم يضم لوحات كبيرة لأشهر الشخصيات البحرية العراقية, التي اشتغلت في الموانئ والملاحة عبر التاريخ, مع شرح مفصل لمنجزاتهم وإبداعاتهم.
واستكمالا لما تقدم نرى أن يتعامل المجلس الموقر بحزم مع المؤسسات البحرية العاملة في البصرة, ويحثها على تحمل أعباء تنفيذ هذه الخطوة, وتوفير النماذج والمجسمات التراثية, ونقترح أن يصار إلى تشكيل شعبة مختصة بمتابعة هذا الموضوع, تحمل اسم (المتحف البحري), آملين أن تواصل هذه الشعبة السير في هذا الاتجاه, فتفتح أبواب التشغيل للحرفيين, والملاحين, والخبراء, الذين ستناط بهم مهمة إدارة المتحف.
اما المؤسسات البحرية المعنية بالأمر, فهي: شركة نفط الجنوب, التي تمتلك المنصات البحرية النفطية, والشركة العامة لموانئ العراق, وشركة ناقلات النفط العراقية, والشركة العامة للنقل المائي, وقيادة القوة البحرية, وآمرية خفر السواحل والمياه الداخلية, ومركز علوم البحار, وجمعيات صيد الأسماك في الفاو. .

وقفة:
طريق الألف ميل يبدأ بخطوة
والوصول إلى القمة في التعمير والبناء يبدأ أيضا بخطوة