في طريق عودتهما من المدينة إلى قريتهما، بعد أن فشل الأب في تسجيل ابنه المتفوق في الابتدائية في مدرسة من مدارسها القليلة في ذلك الزمن البعيد، شعر بغيظٍ شديد عندما فهم بعد محاولته في أكثر من مدرسة وحواره مع أكثر من مدير، أن هذه المدارس جُعِلَت فقط لأبناء الباشاوات والباهاوات، وليس لأبناء الفلاحين القرويين، حتى لو كانوا موسرين وقادرين على دفع الرسوم المدرسية في أوقاتها وعلى النحو المطلوب.
إلى جانب ولده "سليم" ذي الأربعة عشر عاما سار مهموما، بعد أن بدأت آمال "سليم" تتبخر وأحلامه تتساقط، مع أنه كان قد بنى لنفسه قصورا في خياله عاش في أفيائها أياما وأسابيع، وهو ينتظر لحظة وصوله إلى المدينة كي يستطلعَ المكان الذي سيعيش فيه مُقبِلَ أيامه الدراسية التي ستفتح أمامه آفاق مستقبلٍ محلِّقٍ في فضاء المعرفة.
كانت حال الأب أشد قنوطا من ولده، خاصة عندما كان يختلس منه نظرات تكشف عن مدى الإحباط الذي خيَّم على نفسه ما جعله يمشي غير شاعر بشيء غير خيبة الأمل.
وكان كلما رأى ابنه على هذا الحال شعر بوخز في خاصرته، وبثقل على قلبه يضيق له تنفسُّه، وبنارٍ تُشْعِل في جنباته كراهية هؤلاء الذين يحتكرون العلمَ والمال معا.
فهو كان يفهم أن هناك من يحتكرون المال، فتضيع على من لا يملكونه بسبب ذلك الاحتكار فرصة مشاركتهم في علم لا يقدَّم لأحد بالمجان في زمانٍ ومكان التقيا على ذلك النحو المعوجِّ عن طريق الخطإ، فيقبل على مضَضٍ بنتيجةٍ حتَّمها الرزق الشحيح.
رغم أنه لم يكن يفهم كيف يكون العلم في بلاد المسلمين مدفوع الثمن، فيما التاريخ الذي تعلمه يؤكد على أن كلَّ سبل الحياة والراحة كانت تؤمَّن لطالبيه القادمن إلى مراكزه ومدارسه من كل آفاق الدنيا، منذ كانت بغداد حاضرة الدنيا.
أما أن يصبح العلم حتى لمن يتمكن من توفير نفقاته ويستحقه من المتفوقين شحيحا، إن لم يكن طالبه مدموغا بأختام "أبناء الذوات" الذين كانوا يُمنحون هذه الصفات فقط إذا كانوا أرباب تجارة في المدن أو إقطاعيي أرض في القرى والأرياف، فهو أمر كان عصيا على فهمه.
والأدهى والأمر أن أصحاب تلك المدارس التي خَصَّصَت نفسها لتحصيل المال من هؤلاء، ولتعليم أبناء هؤلاء فقط، لم تكن تملك الجرأة كي تعلن ذلك، حتى لا تُتَّهَم بالتحيُّز والعنصرية والتكبُّر والطائفية والاستعلاء، بل كان مديروها يرحبون بالفلاحين الذين كانوا يتوافدون من قراهم إلى مدارسهم لتسجيل أبنائهم، قبل أن يعودوا جميعهم يجرون وراءَهم أذيالَ الخيبة.
وكان هؤلاء المديرون يبدون إعجابهم بنتائج أبنائ الفلاحين المتفوقين، وسعادتهم بأن تكون هناك فرصة لضمِّ أولادهم هؤلاء إلى صفوف مدارسهم إن تحققت شروط ذلك الضَّم، لتبدأ سلسلة الاعتذارات والتأفُّفات والتأسُّفات تتوالى الواحدَ تلوَ الآخر، بذكاء مدروسٍ يُخرجُ معظمَ الفلاحين السعداء بتفوق أبنائهم في المراحل الدراسية الأولى التي يكونون قد تابعوها في القرى الكبيرة القريبة من قراهم، والفرحين بثناء المديرين عليهم، قانطين لا يملكون حيلةً بعد أن وُضِعوا في دوائر التضييق التي لا تجعل أمامهم من مفرٍّ سوى الاستسلام والعودة من حيث كان القدوم، ليس بخفي حنين بل بأخفاف كل "الأحانين".
كان والد "سليم" الميسور ماديا يشعر بالأسى والألم كلما نظر إلى ابنه "سليم"، وهو يرى مستقبلَه الذي تخيَّلَه له يضيع بسبب هذا النظام التعليمي الآسن الذي جعل العلمَ حكرا على فئةٍ امتلكت الصفة التي تبرِّرُ لها ذلك الاحتكار، لا بكفاءةٍ وتفوُّق بل بسلوك غالبا ما لا يعتبرُ نظيفا أو عادلا أو مُبَرِّرا مشروعا لذلك الاستحقاق من الناحية الأخلاقية والدينية.
قال لكي يبعث البهجة في نفس ولده المتجهِّم بسبب ما حصل معهما في أكثر من مدرسة:
ليتنا نعرف مدرسة أخرى نجرِّب فيها حظنا.. ألا يوجد مدير مدرسة يكسر هذا الاحتكار الظالم (؟!)
ساد الصمت طويلا قبل أن يُشِعَّ وجه سليم ببعض الأمل وهو يرى أمامه لافتةً كُتِبَ عليها بكلمات واضحة وعريضة بخط الرقعة الجميل "مدرسة يسوع المعمدانية الثانوية للذكور".
لوَّح بيده عاليا إلى حيث اللافتة وهو يقول ببهجة:
"هناك مدرسة ثانوية.. ها هي.. ها هي.." (!!)
التفت الأب إلى حيث أشار ولده، لكنه ما لبث أن اجتاحه شعور بإحباط من نوع آخر عندما رأى الصليب وما يشبه صومعة كنيسة تعلو بناء المدرسة، وقال محاولا أن يخفِّضَ من سقوف توقعات ولده الملهوف على مدرسة تقبل به:
ولكن هذه مدرسة مسيحية، فهل ستقبل بتلميذ مسلم.. إذا مدارس المسلمين لم تقبل بك، فكيف بمدرسة من الواضح أنها تبشيرية بلا نقاش (؟!)
لم يستسغ سليم إجابة والده، وقال له كأنه يُذَكِّرُه بواقع حال:
ولكن قريتنا فيها دير بجنب المسجد، وصومعة الدير أعلى من مئذنة المسجد، مع أن المسيحيين في قريتنا هم فقط دار "أبو إلياس"، ودار "جرجس سمعان"، ودار "أنطون بشارة"، ودار "حنا نصار". يعني قريتنا قبلت بين ثلاثة ألاف مسلم ما لا يزيد عن ثلاثين مسيحيا، ووافق الشيخ والقاضي والمختار على بناء كنيسة لهم، ولم يعترض أحد عندما ارتفعت الصومعة إلى أكثر من ارتفاع المئذنة، فهل يعقل أن لا يقبلوني في مدرستهم هذه (!!)
صمت الأب لحظة بدا خلالها وكأنه يفكر في وجاهة ما قاله ابنه مما لم يخطر له على بال قبل ذلك، ثم وقد قرَّر أمرا:
فلنجرب حظنا مع المسيحيين بعد أن خيب ظننا وأملنا إخوتنا في الدين (!!)
في مكتب مدير المدرسة التي كانت أقرب إلى كنيسة منها إلى مدرسة، كان المدير يتفحَّص علامات الولد المتفوِّق وهو يهزُّ رأسه بإعجاب قائلا:
تلميذ نجيب، ولكن.. (!!)
تشاءَم الوالد من كلمة "ولكن" التي سبق وأن سمعها في كل مدارس المسلمين التي مرَّ عليها، وبادر إلى التدخل فورا قائلا بغيظ شديد لاحظه المدير فارتبك:
ولكن ماذا، الا تقبلون سوى المسيحيين واليهود في مدرستكم (؟!)
لم يكن المدير قادرا على التصريح بذلك حتى لو كان حقيقيا، فسارع كي ينقِذَ نفسَه من هذا الموقف المحرج قائلا:
ليس هذا بالضبط، ولكننا مدرسة تبشيرية كما تعرف، ونُصَليِّ صباح كلِّ يوم قبل الدخول للصفوف (!!)
رد عليه قائلا:
في بلدتنا يوجد دير من أيام أجدادي، وهو مقام بجانب أحد مساجد البلدة، وبالتالي فهذا ليس غريبا علينا.. صلوا.. من يستطيع أن يمنعكم أو يحتجَّ عليكم، وفي أيِّ وقت (؟!)
بمكر عقَّب المدير:
ولكنكم هناك في بلدتكم لا تصلون في الدير بل في المسجد (!!)
ممتاز، هذه فرصة ليؤدي ابني صلاتَه معكم هنا (!!)
ولكن كما تعرف صلاتنا مختلفة، هي تراتيل دينية نمجِّد فيها الله ويسوع والعذراء (!!)
جميل جدا، هذا يلائمني أنا وابني، فنحن نؤمن بالتوراة والإنجيل وبيسوع والعذراء (!!)
المدير بقلق بدأ ينتابه:
ثم إننا نأخذ التلاميذ صباح كلِّ أحد إلى الكنيسة القريبة من هنا، لنصلي هناك، حيث نستمع لموعظة يقدمها القِّسيس (!!)
ببرود وكأن الأمر مبهجٌ ومفرحٌ له:
لا مانع، فالكنيسة بيت الله كالمسجد ولا فرق، وأنا يهمني أن يعرف ابني الدين المسيحي، أرجو ان تعلموه إياه جيدا، فهو لم يتعلم حتى الآن سوى الإسلام، فأنت تعلم مدارسنا ومساجدنا لا تعلم المسيحية (!!)
بغيظ وقد بدأ يشعر بأن الدائرة تضيق حوله:
لكن كما تعلم لا رمضان عندنا في المسيحية، وبالتالي لا يمكننا تحضير الإفطار والسحور للتلاميذ المسلمين الصائمين (!!)
أصلا صحة إبني كما ترى لا تساعده على الصيام، وهو لا يصوم في البيت، وأنا لا أريده أن يصوم عندكم أساسا (!!)
تأمل المدير الرجل وابنه وهو يُخفي غيظا لأنه لم يجد مخرجا لعدم قبول ابنه، إلى أن شعَّت في ذهنه فكرةٌ حاول لعبَها كورقة أخيرة، وقال مبتهجا بأسفٍ واضح:
ما يؤسفني أن اقوله لك، أننا نفرض على التلاميذ حفظَ آيات كثيرة من الإنجيل ومن التوراة ونمتحنُهم فيها (!!)
الوالد بمكر:
هل تقصد العهدين الجديد والقديم (؟!)
المدير وقد أحسَّ بأنه أطبقَ على الرجل كي ينسحبَ غير آسف على ترك هذه المدرسة "الكافرة":
نعم، سيتعلم هذا التلميذ النجيب العهدين الجديد والقديم، ويحفظ منهما الكثير مثلما حفظ من القرآن (!!)
بابتسامة شعر أنها القاضية على المدير المتَفَلِّت:
أرجو فقط ألا تلزموا الولد بشراء نسختي العهدين القديم والجديد ودفعه رسوم ذلك (!!)
أحس المدير بأنه انتصر على خصمه بالضربة القاضية، فقال بحماس وتأكيد:
بل يجب أن يشتريهما، فكيف سيقرأ ويحفظ آياتهما بدون أن يقتنيهما (؟!)
ثم بالضربة القاضية:
يبدو أنك لم تفهمني يا حضرة المدير، أنا لم أقصد ما تخيلته، كان قصدي أنه لن يحتاج لشرائهما، فعندنا في البيت نسخة من العهدين موضوعة إلى جانب نسخة القرآن (!!)
وفي هذه الأثناء سمع صوت المؤذن في المسجد القريب يرفع أذان الظهر، فاستأذن الرجل من المدير وانتظر حتى استكمل المؤذن أذانه، وسأل المدير بجديَّة:
دلني على جهة القبلة يا حضرة المدير، لا أظن أنك تجهلها حتى لو كنت مسيحيا، فمكة موطن النبي إبراهيم عليه السلام وهو جد العذراء والمسيح وموسى قبلهما (!!)
أشار المدير إلى جهة القبلة بانصياع تام ودون أن ينطقَ بكلمة (!!)
أقام الرجل الصلاة وأمَّ بابنه وصليا الظهر معا أمام المدير وفي مكتبه.
وبعد الانتهاء من الصلاة توجَّه إلى المدير الذي كان على ذهوله واندهاشه ما يزال، وسأله عن الخلاصة بعد كل ما سمعه.
تجرأ المدير وسأله:
أراكما متدينان وتصليان الصلاة المكتوبة في وقتها، ألا تخشى على ابنك من أن يتغير في المدرسة (؟!)
قال الرجل بلهجة من يستعجل إجراءات التسجيل:
أتراني أمامك جاهلا إلى الحد الذي أخاف على دين أولادي من العلم، ولا أخاف عليه من الجهل (؟!)
ازداد اندهاش المدير، وبعد فترة صمت قال:
لم تترك لي شيئا أقوله، كانت هذه هي طريقتي في جعل كل الآباء المسلمين يخرجون من مكتبي دون إخبارهم بعدم رغبتنا في قبول مسلمين في مدرستنا، لكنك أول مسلم يغلق في وجهي كلَّ الطرق (!!)
ثم ابتسم وهو يقول:
مبروك ابنك أول تلميذ مسلم سينضم إلى مدرستنا (!!)
وبعد استكمال إجراءات التسجيل، وعندما وصل الرجل وابنه إلى الباب سمع المدير يقول فالتفت إليه تأدبا:
لا تقلق على صلاة ابنك، سنتيح له الفرصة ليصلي حيث يشاء، وإن أراد الصيام فسوف نعد له وجبتي الإفطار والسحور (!!)
ضحك الأب وابتسم ابتسامة عريضة جذابة قائلا وهو يغادر برفقة ولده:
كل هذا لا يهمني.. ما يهمني فعلا هو أن تعلِّموه المسيحية التي جاء بها يسوع.. فنحن لا نعلِّمُ أولادَنا في بيوتنا ومدارسنا ومساجدنا سوى الإسلام الذي أكمل به محمد تعاليم المسيح.. فأنا أريده أن يتعلم عندكم شيئا جديدا لم يعرفَه عندنا.. أتمنى أن يجدَه فلا يضطر للبحث عنه عند غيرنا وغيركم (!!)
وغادر وسط حالة من الذهول سيطرت على المدير أبقته متسمرا في مكانه ساعة كاملة بدون أيِ حراك.
|