في حديث أُم سلمة رضي الله عنها: إِنَّ لي بِنْتاً وأَنا غَيُور، هو فَعُول من الغَيْرة وهي الحَمِيّة والأَنَفَة.
يقال: رجل غَيور وامرأَة غَيُور بلا هاء، لأَنّ فَعُلولاً يشترِك فيه الذكر والأُنثى.
والمِغْيارُ الشديد الغَيْرة
قال النابغة: شُمُسٌ موانِعُ كُلِّ لَيْلَةِ حُرَّةٍ يُخْلِفْنَ ظَنَّ الفاحِشِ المِغْيارِ
ورجل مِغْيار أَيضاً وقوم مَغايِير.
للعرب في الجاهلية غيرة وحمية ؛ أمثال المهلهل ابن ربيعة الذي اشتهر عند الناس باسم الزير سالم، كان رجل شهوات في حياته رجل كاس وطاس، وزير نساء، ولكن حينما قتل أخوه كليب، أبى إلا أن يطلق هذه الأمور كلها، وأن يعيش لشيء واحد أن يثأر لأخيه المقتول وقال في ذلك قولته: ولست بخالعٍ درعي وسيفي إلى أنْ يخلعَ الليلَ النهارُ
ولم يخلع درعه ولا سيفه ، حتى أخذ بثأر أخيه وانتقم من بني بكر . وفي يوم من الأيام قتل أحد كبرائهم فقال بعضهم يكفيك هذا بكليب، قال هذا يبوء بشسع نعل كليب .
أما عمرو بن كلثوم ؛ فكان عند ملك الحيرة عمرو بن منذر أو عمرو بن هند وكانت معه أمه فأرادت أم الملك أن تستخدمها في بعض الأشياء .. أمرتها أن تأتي لها ببعض الأشياء، فكبر ذلك عند المرأة أم الفارس عمرو بن كلثوم وأخبرت بذلك ابنها فثار وقال قصيدته الشهيرة .
وقصيدة عمرو بن كلثوم تلك ، روي أنها كانت حوالي ألف بيت ، ومنها مما حفظه الرواة :
وإنّا التاركـــــــــون إذا سخطنا وإنّا الآخـــذون إذا رضينا
وإنّا العاصمـــــــــون إذا أُطعنا وإنّا العازمـون إذا عُصينا
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرُنا كَدِراً وطينا
ألا أبلـــــــــغ بني الطـّمّاح عنّا ودُعْمِيّا فكيف وجدتمـونا
إذا المَلـْكُ ســــام الناس خسفاً أبينا أن نُقر الـــــــذل فينا
إذا بلـــــــــــغ الفطام لنا صبيٌّ تخر له الجبابـــرُ ساجدينا
ويقول عنترة في شعره:
لا تسقني ماءَ الحياة بذلة بل اسقني بالعز كأسَ الحنظل ِ
وفي صدر الإسلام ؛ حينما هزمت قريش في معركة بدر الكبرى، قتل منهم سبعون من الصناديد وأسر منهم سبعون، وكان أبو سفيان بن حرب لا زال مشركاً ، وكان يُعتبر زعيم القوم في ذلك الوقت ، خصوصاً بعد أن مات مَنْ مات من الصناديد والكبار في بدر، فآل على نفسه ألاّ يمـــس بدنه ماءُ غسل الجنابة .. يعني ألا يعاشر امرأته . وحرّمت قريشُ على نفسها أن يبكي أحد بكاء نوح ، أي بكاء بأصوات ، يكتمون ذلك في أنفسهم حتى لا ينفسوا عن أنفسهم ، ليظل هذا الغضب مكبوتاً إلى أن يأخذوا بثأرهم . وفي يوم من الأيام سمع بعض الناس رجلاً يبكي ويصرخ ببعض الشعر، فظنوا أنه أبيح لهم أن يبكوا وأن يشعروا وأن يعبروا عن أنفسهم، فلما خرج وسأل قالوا له هذا رجل ضل بعيرُه فهو يبكي بعيرَه الذي ضاع ، فقال أحدهم في ذلك، كانت امرأة: أتبكي أن يضل لها بعير ويمنعها عن النوم السهود ، ولا نبكي على بدر ؟!!!
وفي عهد الخلافة الأموية رويَ أنَّ الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز (رض) حينما سمع أن رجلاً مسلماً في بلاد الروم قد أهين، فكتب عمر بن عبدالعزيز - وقد بلغه ذلك - إلى ملك الروم يقول له (لقد بلغني أن مسلماً استذل عندكم وأسر ، فإذا وصلك كتابي هذا فخل سبيله ، وإلاّ غزوتكم بجنود أولها عندك وآخرها عندي) ، استجاب ملك الروم وأطلق سراح الأسير .
والقصة الشهيرة؛ قصة المرأة التي لطمت على خدها في بلاد الروم، فصاحت صيحتها التاريخية (وامعتصماه) .. تستنجد بالخليفة من إهانة الروم لها ، وبينها وبينه وهاد ونجاد وبحور .. (وامعتصماه) . بلغ المعتصم هذه الصيحة فماذا قال؟ قال (لبيك أختاه، لبيك أختاه) .. وجند جنـّوده وجيـّش جيوشه وحارب الروم في معركة تاريخية معروفة بمعركة (عمورية)، التي قال فيها أبو تمام بائيته الشهيرة:
السيفُ أصدق إنباءً من الكُتبِ في حدّه الحدّ بين الجِّد واللعِبِ
وقال فيها عمر أبو ريشه :
رُبَّ (وامعتصماه) انطلقتْ ملءَ أفواه الصبايا اليُتـَّم ِ
لامستْ أسماعَهم، لكـــــنّها لم تلامسْ نخوةَ المعتصم ِ
أعجبني مقال للأخ الفاضل الأستاذ وسام الشالجي(وفقه الله تعالى على هذه التداعيات الأصيلة ) يقول فيه :
إنَّ العراقيين مشهورون بالغيرة والنخوة والشهامة , وهم يتميزون بهذه الصفات على غرار باقي أبناء الدول العربية .. بل حتى يتفوقون بها ، وترتبط هذه الصفات في الواقع بصفة الكرم التي يتمتع بها أغلب العراقيين . إنَّ العراقي لا يتردد أو يتأخر في الإحسان للفقير ومساعدة المحتاج وإطعام الجائع ونصرة الضعيف والتبرع لأعمال الخير والعطف على الصغير . ليس هذا فقط بل إنَّ الأمر يمتد لجميع شؤون الحياة , فإذا رأى العراقي على سبيل المثال ؛ امرأة تحمل أغراض ثقيلة بادر مسرعا إلى مساعدتها .. حتى دون أنْ تطلب ذلك . وإذا صعد إلى الباص رجل مسن أو امرأة سارع الشبان إلى القيام وترك المجال لجلوسهم . وهناك مثل عراقي قديم يطلق على من يحمل هذه الصفات هو: (اخو هدلة) . وأخوة هدلة هم مجموعة من الرجال من ذوي الشهامة والغيرة والنخوة والشرف الرفيع والعفة التفوا حول رجل اسمه (علي هدلة) في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وساندوه وآزروه حتى قوي نفوذهم واشتد ، بحيث أصبحوا خطرا على السلطة العثمانية في وقتها . ومما يعرف عن هذه المجموعة بأنه في سنة 1876 م كان (علي هدلة) صاحب مقهى تقع بجوار سور مدينة كربلاء ، وكان مأمورو الحكومة الذين يجبون الضرائب على المخضرات يقفون بالقرب من مقهاه لاستيفاء الرسوم من الفلاحين المارين من هناك . وقد صادف أن مرت بهم امرأة فأخذ احد مأموري الحكومة بتفتيشها ظناً منه بأنها تخبئ المخضرات في ثيابها ، صرخت المرأة واستنجدت بأهل المدينة مستثيرة حميتهم فلم يطق (علي هدلة) ولا زبائنه الجالسون في المقهى صبرا على صراخ هذه المرأة فهبوا لنجدتها وطردوا المأمور ، وقرروا إعلان العصيان على الحكومة . وبعد هذه الحادثة قاد علي هدلة جماعة من المناوئين الذين سميوا فيما بعد بـ (أخوة هدلة) وحرضهم على مقاومة الحكومة . وحين اشتد خطرهم ، أرسل السلطان العثماني إليهم جيش من بغداد بقيادة الوالي الذي قام بهدم كربلاء وقتلهم وقتل الكثير من أبناء تلك المدينة , ومن وقتها شاع تعبير (أخو هدلة) عن كل من يتمتع بصفات الغيرة والنخوة والشهامة بشكل واضح وظاهر .ومما يقال في صفات الغيرة والشهامة والنخوة بان العراقي تهتز شواربه إذا سمع أو شاهد أي من حالات تدنيس العرض أو الاعتداء على امرأة , عند ذلك يقوم قومة الأسد في الدفاع عنها والذود عنها ورفع ما أصابها .
وهناك الكثير من القصص والشواهد الأخرى التي حدثت في ظروف العوز والفاقة والمجاعات والتي تظهر بوضوح مدى مصداقية صفات الغيرة والنخوة والشهامة التي هي من شيم العراقيين . ومن القصص الأخرى التي يمكن أن تذكر بهذا المجال إن الفنان العراقي الشهير يوسف عمر كان مارا بأحد أزقة بغداد في الليل فسمع صراخ صبي فلما اقترب من مصدر الصراخ رأى رجلا يحاول الاعتداء على صبي صغير فاشتبك معه بصراع عنيف أدى إلى مقتل الرجل وحكم على يوسف عمر بالسجن 15 سنة جراء ذلك .
ومهما يقال في الوقت الحاضر بأنَّ شيم الغيرة والنخوة والشهامة قد زالت من نفوس العراقيين حاليا بسبب الظروف التي مرت بالبلد إلا أنَّ هذا غير صحيح أبدا . قد تكون هذه الصفات قد انحسرت قليلا لكنها لا زالت باقية . بل إنَّ من المؤكد بان الكثير مما أصاب البلد كان يراد منه بتعمد تحطيم هذه الصفات وإلغائها من قاموس المفردات العراقية . لكن , وبرغم كل هذا التدمير للشخصية العراقية وبرغم كل التجاذبات التي حصلت وأساليب زرع التفرقة بين أبناء البلد الواحد إلا أن العراقيين لا زالوا يمتلكون هذه الصفات وبثبات راسخ , وخير مثال على ذلك الشهيد عثمان الأعظمي السني الذي أنقذ من الموت المحتم ستة من الشيعة ثم مات غرقا مع الشيعية السابعة .خلال حادثة الجسر في زيارة استشهاد الإمام موسى بن جعفر عليه السلام .
والحالة هذه ؛ فما أحرانا اليوم إلى أن نستعيد صفات النخوة والغيرة العراقية الأصيلة ، التي لا تعني العراقيين العرب حسب ، بل ؛ هي لزام على الأخوة الكرد والتركمان والغير مسلمين أيضا . يحكي لي أحد الجنود خلال معارك حكومة صدام حسين مع الأكراد في شمالنا الحبيب ، أنه رأى شيخاً طاعناً في السن يبكي تحت شجرة على الجبل ، سأله هذا الجندي عن سبب بقائه دون أن يهرب من نيران المعركة ، وإذا به يُخرج لباساً داخلياً ملطخاً بالدماء قائلاً ببكاء : هل يرضيك هذا يا (كاكا) .. هذا لباس ابنتي التي أغتصبها جنود صدام !
كما حدثنا آخرون ؛ أنَّ مجاهدة من عناصر حزب الدعوة الإسلامية كانت تُعلـّق ورأسها يتدلـّى ، ودماء الحيض تسيل على وجهها ، يضحك شرطي أمن صدّام قائلاً : إشربي كأس الكوثر !
وكنتُ قد عاصرتُ أحداث 63 عندما كنت صغيراً أسكن في منطقة الكرادة الشرقية ببغداد ، وكان الحرس اللاقومي يعذب المناضلات الشيوعيات في أحد البيوت ذات السراديب على ضفاف النهر ، التي تركها اليهود عام 48وبيعت إلى بعض العراقيين واستفادت منها حكومة 63، وكيف كانت الفتيات الجميلات تزهق أرواحهن البريئة في الليل الأحمر المباح ، حتى توضع ميتة في (كونية) وترمى بنهر دجلة !
حدثني أحدهم ؛ أنه غادر من ألمانيا مع عائلته حالما كبرت ابنته الواحدة من بين ولدين ، ليسكن دولة الإمارات العربية المتحدة استتباعاً لرزقه مع أحد الشركات الألمانية .. حالما فتحت لها فرعاً فيها ، بسبب خوفــه عليها من أجواء المجتمع الألماني .
اليوم ؛ يُشَرِّعُ التكفيريون الجدد فتوى نكاح الجهاد ، هذه الفتوى التي ابتليت بها الحكومة والشعب التونسي ، وكيف أنها فتوى تتيح للمجاهدين (شرعاً) أن يتوالوا على المنكوحة جهادياً بساعات معلومة ، لا يجوز (شرعاً) أن يتجاوز أي مجاهد على وقت الآخر بتاتا !!! فإذا ما حملت بطفل يكون حاله حال مخلوق في الغابة لم يُعْرَفْ أبوه !!!؟
الإنسان العراقي الغيور يستحضر قيمه وتقاليده ذاتياً ؛ حتى وإن لم تستنجد به عن بعد ماجدة من ماجدات العراق وحرائره الكريمات ، بسبب غيرته المتوارثة ، ينجدها دون أن تستنجد ، لعلمه و فهمة للضير الذي لامس سمعتها ، أو قدح شرفها ، أو خدش حياءها ، أو آذى أهلها الكرام الآمنين !!!
ما أحرنا اليوم ؛ إلى أن نستحضر قيمنا وتقاليدنا التي ربّانا عليها آباؤنا وأجدادنا العظام ، وهي قيم وتقاليد تعزز في أفراد مجتمعنا العراقي العزيز كلَّ الخير والبركات ، وتجعل منه مجتمعاً نبيلاً متسامياً على الرذيلة والفحشاء والمنكر ، ويجعل الإنسان العراقي .. شاباً أو فتاةً ..طفلاً أو شيخاً يأمنون على حياتهم في الليل والنهار .. جهراً وعلانية .
كان الناس يسافرون على الطرق الخارجية خلال ساعات متأخرة من الليل ، إلا أنهم لا يخافون ما يخافونه في العراق اليوم .
في الكثير من دول الجوار تتجول المرأة ـ لوحدها ـ ليلاً وظهيرة ً .. تتبضع من الأسواق وتعمل بكل أمن وأمان ، والمجتمع لا يتحرش بها، والمجتمع لا ينهش من حيائها شعرة .
الأطفال يصعدون إلى حافلات رياض الأطفال بأمن وأمان .. التلاميذ يذهبون إلى مدارسهم بأمن وأمان .. الناس يذهبون لأعمالهم اليومية بأمن وأمان .
لكننا هنا في العراق ؛ نخاف من المعاكسات .. نخاف من التحرشات .. من اللفتات .. نخاف من النظرات .. نخاف من المقالات .. نخاف من المفخخات .. نخاف من الأحزمة الناسفة .. نخاف من الأسلحة الكاتمة .. نخاف من الاختطاف !
فمتى نخاف على سُمعتنا !!!؟
ومتى نخاف من الله ؟!!!