ما أبشع أن يصبحَ الدين "قومية"، والإله مجرَّد "هوية"

 

 

 

 

 

 

تكاد الأديان - بسبب ما تتعرض له من امتهان جَرَّهُ عليها أتباعها قبل أعدائها - تستكملُ مسيرة تحوُّلها إلى "قوميات" يقوم الانتماء إليها، لا على القناعة والاختيار الذي يتناسب مع طبيعتها التي تقوم على "الاعتقاد" و"الفكرة" و"الرؤية" و"التصور"، ثم على "المنهج السلوكي والتنظيمي للحياة" والمرتكز إلى رؤية قيَمِيَّة محددة، بل على الإرث التاريخي والثقافي للأعراق والقوميات، وهو الإرث الذي يجعل "دينا معينا"، مُكَوِّنا من مكونات "هوية عرقٍ واثنية معينة"، تابعا بذلك للعائلة والقبيلة والقوم والأمة، بدل أن يكون مُكَوِّنا من مُكَوِّنات "القيمة" التي تتبعها الإنساية بكل مستويات وأشكال تواجدها العائلية والقبلية والقومية..

ما أبشع ذلك وما أبعده عن رسالة الأديان، وعما أراده الله عندما أرسل بها رسله وأنبياءَه..

الأديان التي ناضلت لتحرر "الإله" ذاتَه من الصورة العائلية والقبلية والقومية التي وُضِعَ في إطارها على مدى آلاف السنين، ذلك الإطار الذي كرَّسَ أعمق أنواع الفرقة والتناحر والاستعلاء والجهل والطبقية والاستبداد والظلم والاستعباد، تتحول هي ذاتها إلى أبشع أنواع القوميات، ويتحول الانتماء إليها إلى أخطر مُكوِّنات الهوية العرقية والاثنية، ليتمَّ الانتكاس إلى حالة ما قبل الأديان، عبر تحميل الأديان المفترى عليها ذاتِها أبشع مستويات الاستعلاء والعنصرية، بأن يصبِحَ دينك هو ذاته قوميتك واثنيتك وعرقك.. 

في ظل هذه السيرورة الخطيرة لما بدأت تؤول إليه الأديان، ننسى جميعا أو نتناسى، أن الدين بالذات لا يمكنه أن يكون قومية، ولا أن يُجَسِّدَ مُكَوِّنا من مُكَوِّنات أيِّ هويَّة عرقية أو اثننية من الناحية البُنْيَويَّة، فالله الذي هو مصدر كلِّ الأديان السماوية ليس ملكا لأحد، حتى يَعتبر هذا الأحد أنه – أي الله – مكوِّنٌ من مُكَوِّنات هويته هو دون هويات غيره من البشر..

فالله ليس لي بقدر ما أنه ليس لك، بل هو لي بقدر ما هو لك، سواء التقينا في خندق ديني واحد أو لم نلتقي.. 

بينما قوميتي هي لي وحدى بقدر ما هي ليست لمن ليس منها، فعربيتي هي لي بوصفي عربيا، وليست للصيني بوصفه صينيا، وليست للروسي بوصف روسيا، لكن الله هو لنا جميعا، مهما اختلفت طرق تواصلنا معه واتصالنا به..

فالله موجود في كل الأديان، وهو ملك لكل معتنقيها بصرف النظر عن الاختلاف في شكل ذلك الاعتناق، وفي نتائجه المترتبة عليه، من دين لآخر، وهو من ثمَّ مُكَوِّنٌ من مُكَوِّنات هوياتهم الإنسانية جميعهم بلا استثناء..

إنه مُكَوِّن من مُكَوِّنات الهوية العربية، والهوية الصينية، والهوية الهندية، والهوية الروسية، وكل الهويات البشرية ذات الطبيعة القومية والعرقية والاثنية، في كل مكان وفي كل زمان..

إن الله هو بصمة الوجود الموجودة في كل إنسان، لذلك فهو مُكَوِّن من مُكَوِّنات هويات جميع البشر أيا كانت أديانهم ومعتقداتهم وليس حكرا على قوم دون قوم، ولا على عرق دون عرق، ولا على اثنية دون أخرى..

والدين بناء على ذلك، إما أن يكون إلهيا فينصبغ بصبغة الإله التي تسمو به على القوميات والهويات، وهي الصبغة التي تجعله مملوكا للجميع على النحو الذي يريدونه ويفهمونه ويقبلونه ويطمئنون إليه، حتى وإن اختلفوا في تلك الأنحاء، وإما أن يكون اختراعا وابتداعا بشريا، وهو عندئذٍ غير مؤهّل لأن يتحدث باسم الإله، ناهيك عن أن يقوم باحتكاره..

ولأن الديانة اليهودية هي الديانة الوحيدة في العالم التي صنعت لنفسها إلها على طريقتها القبلية الشوفينية، ونسبته إليها واستخدمته ووظفته واستثمرته، بدل أن تنتسب إلى إله كل البشر، فإنها الديانة الوحيدة التي لم تتحرَّج في اعتبار نفسها ديانة "قومية" بكل صلف، معتبرة أن ما تسميه "الدولة الإسرائيلية" هي "دولة قومية يهودية".. 

إنها ديانة تحتكر الإله، وتعتبره لها وحدها، وفي خدمتها وحدها، وأن البشر يحاولون سرقته منها ومن أتباعها.. 

ومن هنا فإنها ديانة مُخْتَرَعَة، وليست هي الديانة التي أنزلها الله على موسى واستكملها بما أنزله على المسيح ثم على محمد بن عبد الله عليهم السلام، وهي بالتالي غير مسموح لها بأن تتحدث باسم الإله، إله كل البشر، وعليها أن تكتفي بالحديث عن ذلك الصنم الذي صنعته وعبدته واستخدمته وأطلقت عليه اسم "اللواء الركن يهوة رب الجنود"..