مرّ حين من الدهر كان فيه الحوار هو سيد الموقف بين العلمانيين والدينيّن،ومرت احيان نشأت فيها كراهية بين الفريقين تطورت الى حقد وانتقام..بينها حين يعيشه العراقيون الآن.فما هي اسباب هذه العدواة والبغضاء؟وهل يمكن تجسير العلاقة بين الفريقين؟. تحديد مفاهيم يتطلب التوفيق بين طرفين بينهما عداوة او فجوة نفسية ان نفهم افكارهما لنحدد ليس فقط التشابهات والاختلافات بل والتشابهات فيما يبدو مختلفا بينهما..وتحديدا بين العلمانية والدين. العلمانية مفهوم قديم جرى تشريعه في القانون الأساسي للولايات المتحدة الأمريكية بعد الاستقلال،واعتمدته فرنسا في ثورتها عام 1789..بعد صراع وتجارب اوصلت الغالبية المطلقة من الشعوب الاوربية الى قناعة بأن الأمور لا تستقيم الا بأن يتم الفصل بين المجتمع المدني والمجتمع الديني،واعتماد العلمانية بوصفها ضرورة لا غنى عنها في تحقيق الحرية والديمقراطية.هذا يعني ان فكرة العلمانية هي ان يكون سن القوانين وانتخاب البرلمان وتشكيل الحكومة حق للشعب ولا يحق لأية سلطة او قوة او جهة اخرى التدخل في ذلك.ومع ان مقتضيات هذا الحق يتضمن فصل الدين عن العملية الساسية الا ان هذا لا يعني ان العلمانية ضد الدين،ولا يعني ان كل نظام حكم يعتمد هذا الفصل يكون لصالح العملية السياسية..فكثير من الآنظمة الدكتاتورية،في العالم العربي تحديدا،كانت غير دينية..وبينها من كانت ضد الدين او عملت على توظيف الدين لمصلحتها. وما يغفله كثيرون ان اعتماد العلمانية هو ضمانة للحرية الدينية من جهة..اي ان للمواطن الحق في اعتناق ما يشاء من معتقدات وممارسة ما يشاء من طقوس دينية،وضمانة ضد طغيان دين على دين او مذهب على مذهب..من جهة اخرى،سواء بدافع الأكثرية السكانية او بدافع تمثيله الأكبر في السلطة..او الصفة الدينية لرئيس الحكومة او النظام. وفيما يخص الدين فأنه مايزال يعدّ اشكالية لدى الفلاسفة وعلماء النفس، ولهم منه موقفان متضادان.فنظريات التحليل النفسي تعدّ الدين وهما ناجما عن تفكير مرغوب فيه،وتصفه بأنه علاقة وهمية تتوسط بين العالم النفسي الداخلي للانسان والعالم الخارجي الذي يعيش فيه،ناجمة عن عمليات اسقاطية.فيما يرى أشهر من كتب في الفلسفة والاجتماع وعلم النفس وعلم الأخلاق في النصف الثاني من القرن العشرين،اريك فروم (1900-1980) أن الدين هو ( أي مذهب للفكر والعمل تشترك به جماعة ما،ويعطي للفرد اطارا للتوجيه وموضوعا للعبادة).وأنه على أنواع،فهنالك أديان توحيدية وأخرى متعددة الالهة،غير أنه يركّز في نوعين يطلق عليهما :الأديان الانسانية humanistic التي يأتي بها أشخاص مثل بوذا،ويعدّه معلما عظيما و " المستنير " الذي أدرك حقيقة الوجود الانساني وتحدّث باسم العقل وليس باسم قوة فائقة على الطبيعة.والأديان التسلطيةauthoritarian التي يكون العنصر الجوهري فيها هو الاستسلام لقوة تعلو على الأنسان،تكون الطاعة فيه هي الفضيلة الأساسية والعصيان هو الخطيئة الكبرى.وينّبه فروم الى أن الدين التسلطي ( أو الدنيوي العلماني ) يعتمد هذا المبدأ نفسه.فهنا يصبح الفوهرر " ابو الشعب " المحبوب،أو الدولة،أو الوطن الاشتراكي..موضوعا للعبادة،وتصبح حياة الفرد تافهة،فيما يكون هدف الانسان في الدين الانساني هو أن يحقق أكبر قدرة من القوة،لا أكبر قدر من العجز،وتكون الفضيلة هي تحقيق الذات لا الطاعة،والايمان المؤسس على تجربة المرء في مجال الفكر والشعور لا على تصديق قضايا وفقا لذمة المتقدم بها..فيعيش الانسان في هذا النوع من الاديان مزاج الفرح،فيما المزاج السائد في الدين التسلطي هو الحزن والشعور بالذنب. ويرى الفريق الذي يقف مع الدين،ويضم مشاهير علماء النفس والاجتماع،أن الدين بنظامه الأخلاقي هو الذي خلق الانسان،اذ يعتقد (يونج) ان الدين هو وجود دينامي وتجربة تتسم بضرب خاص من الخبرة العاطفية هي الخضوع لقوة أعلى.ويرى ان انعدام الشعور الديني يسبب كثيرا من مشاعر القلق والخوف من المستقبل والشعور بعدم الامان والنزوع نحو الرغبات الغريزية. وفي الفلسفة الوجودية هنالك فريق من الوجوديين المؤمنين يرى أن للانسان طبيعة بشرية خلقه الله بمقتضاها،ثم بعد ذلك يختلف الناس ويتباينون،بعكس ما يراه الوجوديون الملحدون أن للانسان شيئا أسمه الطبيعة البشرية،لأنه لا يوجد الرّب الذي تمثل وجود هذه الطبيعة. على أن السؤال الأهم هو:ما الأسباب التي تدفع الناس الى أن يكونوا متدينيين؟ لقد توصلت الدراسات الى ان الناس يختلفون في اسبابهم،وأنه يمكن تصنيفهم على النحو الآتي: 1. التدين " الغرضي ".ويعني التوجه نحو الدين بوصفه وسيلة للحصول على اشياء اخرى ذات قيمة.فالذهاب الى اماكن العبادة يوفر فرصة لتكوين صداقات،يمكن ان تفيد في أوقات الازمات،أو حين يكون الشخص بحاجة الى مساعدة أو اسناد اجتماعي،وقد يحقق لصاحبه مكانة اجتماعية أو اعتبارية أو وظيفية..وبهذا يكون الدافع هنا تحقيق منفعة تهدف الى خدمة المحافظة على احترام الذات،ويكون الوجدان الديني فيه غير ناضج. 2. التدين الباحث عن الحقيقة. ويعني التوجه نحو الدين بوصفه سفر دائم من أجل فهم القضايا الاخلاقية والروحية المعقدة،والمصحوب بمعتقد ان الاجابات السريعة والبسيطة،خاطئة تماما".
3.التدين الحقيقي.ويعني التوجه نحو الدين الذي يحاول الناس عن طريقه أن يعيشوا دينهم ويستدخلوا تعاليمه. ومن هذا المنظور فأن الدين ليس وسائل لتحقيق بعض الاهداف،وليس رحلة من أجل البحث عن حقيقة،انما هو غاية بحد ذاته،يكون فيه الوجدان الديني ناضجا،ويكون الانسان فيه قد سلّم له نفسا طوعا لذاته وليس من أجل استعماله. ان واقع حال الدينيين في مجتمعنا العراقي يشير الى شيوع الصنفين الأول( الغرضي) والثالث (الحقيقي)،بين من يتخذ الدين وسيلة لتحقيق غرض (سياسي يؤمن مكانة اقتصادية واجتماعية في الغالب) وبين من يتخذه غاية بحد ذاته.وما يعنينا هنا هو ان(الغرضيين) يكونون الأكثر تعصبا والأقل نضجا في الوجدان الديني،فيما (الحقيقيون) يكونون الأقل تعصبا والأكثر نضجا في وجدانهم الديني. وبالمثل،فان هنالك صنفين من العلمانيين: (الغرضيين) و (الحقيقيين)، تنطبق عليهم نفس مواصفات الصنفين اعلاه من الدينيين،لاسيما ما يخص التعصب الأيديولجي،اذ يفعل هذا النوع من التعصب نفس ما يفعله التعصب الديني،لأن صاحبه يرى ان (ايديولوجيته)هي الأصلح للناس والحياة فيما يرى الديني المتعصب ان تعاليمه الدينية هي (الحل). وتأسيسا على التحليل العلمي هذا،فأن على العلمانيين (الحقيقيين)ان يبادروا،كخطوة اولى، الى بناء علاقة جديدة بالتدينيين (الحقيقيين) منطلقين من النضج الوجداني للفريقين ومبدئيتهم في التسامح وقبول الآخر نحو تفعيل ما بينهما من مشتركات،اهمها اتفاقهما على تحقيق العدالة الاجتماعية وتأمين الحياة الكريمة للمواطن ومكافحة الفساد في زمن شهد فيه العراق افسد حكومة في تاريخه. لقد لقد فعلنا هذا مرة حين كنا في أيار 2013 في نشاط ثقافي اقامه اتحاد الأدباء والكتّاب في النجف الأشرف ضم فريقا من العلمانيين بينهم حيدر سعيد،عزيز خيون، حسن ناظم،أحمد المهنا،وكاتب هذا المقال،فيما ضم الفريق الثاني رجال دين يمثلون مرجعيات مختلفة..ودار بيننا نقاش صريح.ومع وجود مواقف تعصب،فانه جرى الترحيب بالفكرة..ووعد الكرام من اخواننا النجفيين بمتابعتها..ومع ذلك فاننا نقترح على مؤسسة المدى واتحاد الأدباء والكتّاب في النجف الأشرفن،والمواقع العراقية:المثقف،الحوار المتمدن،النور،عروس الأهوار،معارج...تبني هذا المشروع واستعدادنا للتعاون في تحقيقه..مع خالص تمنياتنا بالموفقية.
|