يبدو تحت التملّي العميق أن الكتابة المبتَكرَة ليست بالضرورة ذات موضوع مبتَكر، والجديد فنياً ليس جديدَ موضوعٍ، نستطيع أن نعدد أسماء شعراء كان لهم موضوع أليف واحد ينوّعون عليه نتاجهم، لكنهم مع ذلك أتوا بما لا يستطيعه سواهم، روائيون وقصاصون شُغلوا بثيمة واحدة بل استخدموا شخوصاً بأعيانهم وخلدوا بعد أن خلّدوا هذه الثيمات وهؤلاء الشخوص.
يحضرني الآن مثال ابي نؤاس، موضوعه الخمر واللهو والطربُ، وكم من قصائده تبدأ بكلمة "اسقني" أو ما يناظرها، وندر أن تجد قصيدة له لا يعلن فيها عن تهتكه، لكنه مع ذلك كله جديد أبداً، غضّ ولا يكاد تكرار الموضوع لديه يعنينا من قريب أو من بعيد.
كأنما في الأمر نحو من التحدي، لسان حال الشاعر القولُ أنني بموضوعة واحدة استطيع أن أغدو شاعراً. نحو من امتحان للخيال واختبار للعدّة اللغوية وللقدرة على استحداث تراكيب وصياغات مبتكرة، وينجح في الامتحان بتقدير عالٍ مَن يوقف هذه العدّة ويشغلها في موضوعة بعينها دون سواها.
موضوعة الزهد وتقبيح اللذات عند أبي العلاء المعري تتكرر، هي علامته الفارقة، وهو الضدّ التامّ لأبي نؤاس، لكنْ كلاهما يشرق شعرهما بالجميل، يشرف كلاهما على فسحة واحدة من فسحات الذات الإنسانية، ويخاطب كلّ منهما نازعاً إنسانياً مختلفاً، وكلاهما لا يبارى في اشتغاله.
التوفير في المواضيع تقابله وفرةٌ في التراكيب، فإذا كان أبو العلاء قد دعا الى إماطة اللثام عن الوجه القبيح لكلّ شيء، ورأى الفساد في كل شيء وأراد لنا أن نرى الجانب الفاني في الوجود، لكنه قال ذلك بجودٍ وكرمٍ قلّ نظيرهما.
جود لغويّ ووفرة كلامية تكشف عن كرمٍ وسعةِ عطاءٍ هما قدَرُ كلّ شاعر حقيقيّ، فإن أبا نؤاس قابل الجود بالجود، رأى في عطاء الحياة وسيل لذاتها الذي لا ينقطع مناسبة لإخراج كرمه الشخصيّ الشعريّ.
كلما قرأتُ أبا نؤاس آمنتُ بأن الوجود مشتقّ من الجود، أعرف ان هذا الاشتقاق خطأ من الناحية اللغوية، لكني أشكر الصدفة التي جعلت الكلمتين تشتركان بذات الحروف، وأيقنتُ أن البخل والشعر لا يجتمعان.
الوجود جود، يستوي في إعلان هذه الحقيقة متهتك عبّ الحياةَ بجرعات كبيرة كأبي نؤاس، وآخر زاهد قال بخلَ الحياة وتقتيرها بكرم لغويّ وأسلوبيّ كبير كالمعريّ العظيم.
المواضيع قليلة لكن الشعر وفير، والحياة قصيرة لكن احتفالنا بها مديد:
ألِفَ الْمُدامَة َ، فالزَّمانُ قَصِيرُ صَافٍ عَلَيْهِ، وما بِهِ تَكْدِيرُ
وَلَهُ بِدَوْرِ الكأسِ كُلَّ عَشِيّة ٍ حالان: موتٌ تارة ً، ونُشُورُ!
|