في العقدين الماضيين شهدت البشرية الكثير من التطورات والتحولات التي طالت كل شيء تقريباً ، بحيث دخلت الإنسانية في مرحلة تاريخية جديدة على مختلف الصعد والمستويات. السٶال هو، هل يمكننا أن نستوعب تلك التطورات والتحولات أو نستفيد منها إذا بقيت أوضاعنا الداخلية غير موحدة ؟ فعصر العولمة يتطلب منا إرادة إنسانية مستديمة وثقافة تعلي من شأن الإنسان وحقوقه، وتصون كرامته ومكتسباته، وتجذر وتعمق خيارات الحوار والتعددية والتسامح ونظاماً سياسياً، يستند في إِدارته وحكمه على مبدأِ المشاركة وتداول السلطة وإرساء دعائم الديمقراطية في الحياة العامة. بالرغم من أن إقليم كوردستان يعيش حقبة آفاق مفتوحة لايزال هناك نقص القدرات الإنسانية في المعرفة ونقص في تمكين المرأة ومازالت حرية تكوين الروابط المدنية وجمعيات النفع العام ضعيفة و أنساق الحکم الإداري الطابع مركزية والمشاركة السياسية تدار بأسلوب مركزي جزئي خاضع لتنظيم شديد لايشمل جميع المواطنين. العمل الجاد من أجل الوصول الي نموذج الحكم الصالح "Good Governance" من أجل تعزيز ودعم وصون رفاه الإنسان وتوسيع قدرات البشر وخياراتهم وحرياتهم الإقتصادية والإجتماعية والسياسية يجب أن تبدأ بتفكيك آليات وأساليب قديمة متحجرة سائدة. فإدارة البشر في عصر العولمة يحتاج الي إبتكار سياسي ومٶسسي جديد يتلائم مع التغير في نمط السلطة. إن مواجهة تحديات العولمة علي صعدها المختلفة والمتعددة تبوح بالفشل إذا كنا عاجزين عن خلق الأفكار وفتح المجالات أو قمنا بالهروب من المواجهة والإبتعاد عن إبتكار المهام وتغيير الأدوار. فالهوية هي ما ننجزه ونحسن أداءه ، أي مانصنعه بأنفسنا وبالعالم ، لا ما نتذكره ونحافظ عليه أو ندافع عنه. أما الماضي فيتحول الي عائق يصرفنا عن فهم الواقع وصناعة العلم إذا لم نستثمره بصرفه الي أعمال ومنجزات. فالماضي يقودنا الي مانحن عليه في حاضرنا ، بالرغم من أن البعض مازال يظن بأننا لم ندخل بعد عالم الحداثة ، مع أننا ننتمي الي الزمن الحديث منذ صدور أول جريدة كوردستانية في الثاني والعشرين من ابريل 1898. من المعلوم بأن الديمقراطية لاتأتي من الباب الخلفي كما يسعي اليها البعض ، بل يجب أن تبنع من قرار سياسي واع و مقصود بتأسيس الديمقراطية ، والتحول والتغير الديمقراطي لا يأتيان إلا من خلال إصلاح واع و جريء. أما فيما يخص إصلاح الأخلاق الوظيفية فهذا لايتم برفع الرواتب ولا حتي بمجرد تطبيق نظام صارم من العقوبات والمحاسبة. علي الرغم من حتمية وبداهة هاتين الناحيتين في قطاع أي عمل ، إلا أن الأهم من هما هو إحترام التميز الفردي والإفساح في المجال للإبداع والإبتكار ومكافأة وتقدير المتفوقين عن طريق إفساح المجال لتحقيق الذات. فالعمل علي إعطاء المواطن حقه الأخلاقي الطبيعي في تحقيق ذاته هو الأساس الناجح والصحيح لنظام لايعمل بعقلية فوقية تقول: "إن الدولة أهم من أفرادها وإن الأمة أهم من مواطنيها". إن حب شعب كوردستان لقياداتها السياسية يزداد كلما كانت هذه القيادات قادرة على تحمل مسؤولياتها بما فى ذلك أشراك الشعب الكوردستاني معها في إدارتها لأزماتها. الديقراطية ليست عقيدة والعبرة بالنتائج والحوار قيمة إنسانية وحضارية كبرى تتجلى في الدوائر والمجالات كافة ، والاجتهاد وتطوير مؤسسات البحث والتفكير وصياغة ثقافة سياسية جديدة لا تنحبس في قوالب ماضوية ولا تلقي خصوصية أوضاعنا، ولا تقفز في المجهول وإنما تبني حياة سياسية جديدة ترتكز على إطلاق الحريات السياسية لكل القوى والمكونات لكل القوى والمكونات، وإدارة الاختلاف والتنوع بعقلية الحوار والاستيعاب ، لا بعقلية الصمت والإلغاء . أما المجتمع الذي تضمحل فيه إمكانية ممارسة النقد والمساءلة ، فليس بإمكانه استيعاب التحولات والإفادة القصوى من منجزات العصر والتقنية الحديثة. وختاماً: إن عولمة الهوية لا تحدث دون إمتلاك للمعرفة أو لمفاعيل علمية. أما الشأن العام فهو اليوم لم يعد حكراً علي منظومة خاصة أو نخبة سياسية ، بل هو مجال تداولي يمكن لكل فاعل اجتماعي المساهمة في تشكيله و توسيعه أو الدفاع عنه وذلك عبر الإنخراط في المناقشات العمومية أو بتسليط الضوء علي قضايا الساعة أو تقديم مبادرات خلاقة لحل المشكلات وتدبر الأزمات. الهوية القوية والفعّالة ليست ما يملكه المرء أو يُعطي له ، وإنها ليست كياناً ما ورائياً ، وإنما هي ثمرة الجهد والمراس والإشتغال علي المعطي الوجودي ، بكل أبعاده ، من أجل تحويله الي أعمال وإنجازات ، فهي إنبناء وتشكيل بقدر ما هي صناعة و تحويل.
|