بعد أيام سيزور رئيس الوزراء المالكي واشنطن، وقبل أيام قليلة بينت نتائج دراسة منشورة في أمريكا بأن عدد ضحايا الاحتلال الأمريكي للعراق وبالحسابات العلمية يقدر بنصف مليون.
كان العرب قبل الإسلام يعتقدون بأن طائراً يسمونه الهامة يخرج من رأس القتيل يصرخ اسقوني اسقوني حتى يؤخذ بثأره، الهامة خرافة، وظفها العرب في الجاهلية، فهي تذكرة بضرورة الاقتصاص من القتلة، وتحذير لمن تراوده نفسه بالعدوان.
ثم جاء الإسلام الحضاري ليستبدل الخرافة بالمعرفة والثأر بالعدل والعرف بالشريعة.
لا أمريكا ولا المالكي يكترثان لنصف مليون عراقي، وجلهم من الأبرياء، أزهق أرواحهم الاحتلال الأمريكي، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ولا يتوقع أحد من المالكي مطالبة أمريكا بسيادة القانون، وهو شعار جماعته الانتخابي، كما لا تقيم أمريكا وزناً للعدالة في تعاملها مع دول وشعوب العالم، وآخر دليل على ذلك تجسسها حتى على حلفائها.
في أمريكا والغرب هنالك نشطون في حقوق الإنسان لا يكفون عن المطالبة بمحاكمة الرئيس الأمريكي السابق بوش بتهمة قتل عراقيين أبرياء، كما استجوبت لجنة تحقيق بريطانية رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير حول ممارسات القوات البريطانية في العراق أثناء الاحتلال، لكن حكومة العراق تكيل المديح والثناء لحكومتي أمريكا وبريطانيا على "تحريرهما" العراق وتتجنب الخوض في موضوع الضحايا ولعلها تعدهم كلهم مع الإرهابيين.
من المستغرب أن يزور المالكي أمريكا طالباً مساعدتها في حماية العراقيين من الإرهاب، وهو نفس الإرهاب الذي استدعاه الرئيس السابق بوش للمنازلة على الأرض العراقية، وفي الوقت الذي نتبين فيه بأن أمريكا قتلت نصف مليون عراقي. تدعي أمريكا بأنها تحارب الإرهاب لكنها في الواقع تروضه وتستغله لتحقيق مصالحها، أمريكا في خندق واحد مع الإرهابيين الوهابيين التكفيريين في سورية، وتطمح في أفغانستان لاقناعهم بالتحالف معها أو على الأقل مهادنتها، وكل رعاة الإرهاب في المنطقة وعلى رأسهم نظام آل سعود أدوات أمريكية، ولو شاءت لقطعت رأس الأفعى الإرهابية في الخليج فأراحت العراق والعالم، لكنها تريدهم ورقة للضغط على الخصوم والحلفاء على حد سواء وتنفيذ مآربها الخبيثة في اضعاف وتقسيم المنطقة، وما دام الإرهابيون ينؤون بأنفسهم عن تهديد الكيان الصهيوني فستتركهم أمريكا ليعيثوا فساداً وتخريباً في العراق وسورية وبقية دول المنطقة، وهو ما تريده أمريكا وثبت لجميع العراقيين بعد الاحتلال.
في فيتنام حارب الأحياء والأموات قوات الاحتلال الأمريكي، الأحياء في جبهات القتال، والأموات عبر وسائل الإعلام، فقد كان لصور الضحايا من المدنيين وقعاً كبيراً على نفوس الأمريكيين، حركت فيهم مشاعر الذنب والاشمئزاز من الحرب، وما زالت ذاكرة الملايين من الأمريكيين وغيرهم تختزن صورة طفلة صغيرة مذعورة وعلى جسدها الغض آثار حروق تهيم على وجهها هاربة من جحيم احتراق قريتها الصغيرة وأهلها بقنابل النابالم الحارقة، وبسبب هذه الصور والتقارير الإخبارية شهدت المدن الأمريكية مظاهرات عنيفة، اهتزت لها بنية المجتمع الأمريكي بأكمله، وتخوف البعض من انهيار شامل، وكانت موجة الاحتجاجات الشعبية ورفض التجنيد الاجباري عاملاً رئيسياً في هزيمة وانسحاب القوات الامريكية، ولكن الأمريكيين لم ينسوا أو يغفروا لأنفسهم، وطاردت لعنة حرب فيتنام الأمريكيين إلى بلادهم، وظهرت نتائجها المرعبة في عدد جرائم القتل الوحشية التي اقترفها أمريكيون عائدون من الحرب، وفضل البعض منهم الانتحار على الحياة مع العذاب النفسي، ومن لم يقتل أو ينتحر عاش مكتئباً منبوذاً من الناس وعاجزاً نفسياً عن العمل.
الإحياء أعلى وأسمى قيمة في الإسلام، وهو متميز بين كل الإديان في اعتبارها قيمة كونية، إذ حق الحياة في الإسلام مكفول للجميع، من مسلمين وغيرهم، لذا فإن أول واجب على المسلم الحفاظ على حياة البشر ومنع الأذى عنهم، وهي قيمة مفقودة في العراق، إذ يقتل العشرات بالمعدل يومياً فلا ترف جفن مسؤول ولا نرى ولو ارتجاجاً خفيفاً في بركة المجتمع العراقي الراكدة، حتى أصوات الاحتجاج والاستنكار ندرت وخبت، وهي الدليل على استهانتنا بقدسية الحياة البشرية، والتي قد تكون لها نتائج مدمرة على المجتمع العراقي، ومن يستهن بالأحياء يكره ذكر الموتى، فلا ذكرى للأبرياء الذين حصد أرواحهم الاحتلال، وأغلب ضحايا الاحتلال من الأبرياء، وكثير منهم قتل بطرق وحشية، لا تقل في فظاعتها عن جرائم الحرب الأمريكية في فيتنام، لكننا في العراق لا نقيم وزناً لضحايانا من الاحتلال وما جره علينا من إرهاب، نطمس ذكراهم، نمحي صورهم، ننسى أسمائهم، والمهرجانات الغنائية الراقصة أهم عند حكومتنا من إنشاء متحف للصور أونصب ينصف هؤلاء الأبرياء ولو بالذكرى.
مصير زيارة المالكي لواشنطن الفشل المحتم، لأن أمريكا تريد عراقاً ضعيفاً وقابلاً للتقسيم عندما تحين الفرصة وتسمح الظروف، وللإرهاب الذي تدعمه أمريكا أو تتغاضى عنه دور هام في هذا الصدد، لذلك سيرجع المالكي خالي الوفاض، وبما أن الأحياء من العراقيين لاهون عن الأخطار المصيرية التي تحاصرهم لذا لا خيار أمامنا سوى الاستغاثة بالأموات، وبالتحديد أرواح نصف مليون عراقي قتلهم الاحتلال الأمريكي، ونطلب منهم التوجه لأمريكا – وهم كانوا في وطنهم نسياً منسياً في الحياة قبل الممات - ليقضوا مضاجع الأمريكيين، لعل الشعور بالذنب يتحرك في نفوسهم، فيزدادوا اشمئزازاً وكراهية للحروب، ويمنعوا حكومتهم من شنها أو اشعال فتيلها، ويوقفوا دعمها لرعاة الإرهابيين في المنطقة، لذلك أهيب بأرواح العراقيين الذين قتلهم الاحتلال والإرهاب الصعود إلى طائرة المالكي المتوجهة إلى واشنطن، ولو ضاق المكان فلينزل المالكي ووفده ويترك الطائرة للأرواح فهي أكثر قدرة على التأثير على الأمريكيين وحكومتهم من المالكي وكل القاطنين في المنطقة الخضراء.
(للإسلام غايتان عظمتان هما الإحياء والاصلاح، ووسيلة كبرى وهي التعلم)
|