كوردستان والاغتراب |
تعرض الكورد خلال القرن الماضي وما زال في كثير من البلدان التي هضمت حقوقهم إلى كوارث ومآسي ربما آخرها انفالات صدام حسين، التي كادت أن تبيد شعبا بأكمله لو كان استمر ذلك الوحش المنفلت بالحكم والسيطرة إلى يومنا هذا، سواء من خلال التصفية لحياة مئات الآلاف من الأهالي أو من خلال عمليات إفراغ الذات الكوردية من مضمونها، في سياسة التعريب والتبعيث التي استخدمها طيلة ما يقرب من أربعين عاما، ووظف لها مليارات الدولارات في تدمير آلاف القرى وترحيل مئات الآلاف من سكانها إلى الوسط والجنوب لإذابتهم قوميا أو إبادتهم في المقابر الجماعية.
فمن عملية تتريكه في تركيا أي إلغاء كورديته واعتباره تركيا جبليا وما يترتب على ذلك من غباء واستلاب وإفراغ للذات الإنسانية من مضمونها وأصالتها وتحويلها إلى ما يشبه قطعان الماشية، إلى التعريب الذي لا يفرق عن التتريك، بل ربما كان أكثر منه وحشية وبدائية كما حصل في جنوب وغرب كوردستان منذ ثلاثينات القرن الماضي والى حد الآن في مدن الموصل وسنجار وخانقين وكركوك وديالى والحسكة والقامشلو وحلب وقرى الحزام الأمني في كِلا البلدين العراق وسوريا وعلى طول الحدود بينهما، إلى عمليات الإذابة والصهر في إيران، وما حصل في العراق وسوريا منذ ثلاثينات القرن الماضي وحتى هذا اليوم وما يجري من عمليات التطهير العرقي والتقتيل اليومي للعرق الكوردي في كثير من المدن من قبل الإرهابيين والعنصريين الشوفينيين سواء بعد سقوط نظام صدام حسين أو في ما تقترفه تلك العصابات الفاشية في القرى والبلدات الكوردية في سوريا.
لقد تعرض الكورد إلى مئات العمليات التي رحلتهم من قراهم وبلداتهم إلى مناطق نائية في أقصى جهات العراق وسوريا الأربعة، وتشتيتهم بين القرى العربية لإذابتهم ومسخهم، ومصادرة أراضيهم وممتلكاتهم و منحها لغيرهم من العرب المستقدمين من مناطق أخرى في عمليات تغيير ديموغرافي بشعة لمناطق كوردستان الجنوبية والغربية كما حصل في كوردستان الشمالية والشرقية في عمليات التفريس وتشتيت الكورد في كثافات فارسية أو أذرية لإذابتهم والقضاء على ثقافتهم وفلكلورهم بدعوى إنهم من ذات العنصر أو العرق؟
ونتيجة لتلك الظروف البالغة القسوة والتعتيم المريب لوسائل الإعلام المحلية والعالمية، وسكوت مذهل من منظمات المجتمع المدني العالمية سواء ما كان منها في منطقة الشرق الأوسط أو في أوروبا وأميركا، ونتيجة للحروب البشعة التي كانت تشنها كل من أنظمة العراق وإيران وتركيا وسوريا ضد هذا الشعب الأعزل فقد نزح وهاجر مئات الآلاف من خيرة شبابه وخبراته العلمية والثقافية إلى دول أوربا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا واستراليا، بينما استقر آلاف آخرين في معسكرات أو مجمعات في دول الجوار كما حصل لكورد العراق في هجرتهم إلى كل من إيران بعد 1975م وتركيا بعد انفالات البعث في 1988م وكذلك لكورد تركيا وإيران الذين استقروا في معسكرات عراقية كمهاجرين، وكما يحصل الآن في هجرة آلاف مؤلفة من كورد سوريا إلى إقليم كوردستان، والتي تعتريها الكثير من علامات التعجب والاستفهام تدور حول عملية الإفراغ المنظم لكثير من القرى والبلدات في غرب البلاد!؟
وتأتي معظم هذه الهجرات على شكل موجات بشرية من العوائل، تندفع أمام ضغط الهجمات العسكرية إلى إحدى دول الجوار، لكي تبدأ المرحلة الثانية من الاغتراب، حيث تلعب عصابات مافيا التهجير والترحيل، والتي ترتبط معظمها بأجهزة المخابرات المعنية في أجزاء كوردستان الأربعة تسهيل مهمة تهجيرهم وإفراغ كوردستان من شبابها ورجالاتها في مختلف الاختصاصات العلمية والثقافية، وخلال عدة عقود أصبحت هناك أعدادا مهمة من الكورد الذين ولدوا وترعرعوا وتربوا في أوساط أوربية، بل وتخرجوا من جامعاتها ومعاهدها، وتجنسوا بجنسيات بلدانها وأصبحوا من مواطنيها وتبوأ البعض منهم مناصبا رفيعة في برلماناتها وإداراتها.
والأسئلة كثيرة وفي مقدمتها:
ماذا تبقى منهم للوطن الأم وهم الذين قدِموا من رحم الاضطهاد والملاحقة والتهجير والتقتيل؟ هل ما زالت هناك قنوات بينهم وبينه؟ وهل يدركون إنما ارتحلوا بحثا عن طريق آخر للوصول اليه؟ أم أنهم استبدلوا وطنهم بأوطانهم البديلة، والتي منحتهم هوياتها وجنسياتها؟ هل فقدوا كل ارتباط بوطنهم الأصلي ولغتهم الأم؟ أم انه من واجب المؤسسات الحكومية والسياسية العمل على إعادتهم أو على الأقل دعوتهم لزيارة كوردستانهم اليوم لكي تبقى قلبوهم تنبض من أجل وطنهم؟
حقا أنها أسئلة تدلنا إلى واقع تلك الشريحة الواسعة من المغتربين في شتات الأرض تستدعينا إلى وقفة جدية للتعاطي معها بما يخدم مصالح البلاد العليا ويؤمن لها قنوات اتصال دائمية مع الوطن وقضاياه، وفي مقدمة ذلك فتح مدارس كوردستان في المناطق ذات الكثافة السكانية الكوردية في المدن الاوربية والأمريكية، لا تكون مدارس تقليدية فحسب بل لتكون مراكز ثقافية أيضا تساعد مختلف الأجيال على ديمومة الارتباط والعلاقة مع الوطن وقضاياه. |