الكرش العراقي المعاصر" كرمز للعراق الجديد

 

" لربما كان العراقي الحالي أكثر أهل الأرض فقدانا للرشاقة ولتوازن المعادلة الطبيعية الخاصة بالإستهلاك والإنتاج. فهو كثير الأستهلاك في الطعام والطاقة والمواد الأولية والكلام وقليل الإنتاج في المعمل والبرلمان والمدرسة والجامعة وأجهزة الحكومات المركزية والمحلية ( قطاع "إنتاجي واحد فقط مازال يتمتع بحيوية وقدرة دائمة على التجدد هو قطاع "إنتاج" الأطفال الذي يعمل بطاقته القصوى بما يضمن تضاعف السكان كل عشرة سنين دون حساب لأي ظرف!). في العراق الجديد، وفي كل مكان منه ، نرى صبياناً بعمر يفترض الرشاقة، ينوءون تحت ثقل أرطال زائدة من الشحم .وزراء . رجال دين. قادة عسكريون .أساتذة جامعات . والأمّر والأكثر إثارة للفزع أن التكرش قد إكتسح آفاقاً كانت محرمة عليه في ما مضى من زمان فشمل حتى الرياضيين الذين تفترض مهنتهم وهوايتهم الرشاقة، وما تعرضه الشاشات من كروش المدربين والإداريين المتهدلة عبر عن مهزلة مرة أمست حديث الإعلام الغربي! لكن "الكرش العراقي المعاصر" ليس مجرد دلالة على إختلال النظام الغذائي لدى شعب مثلما هو عليه الحال في أمريكا حيث الثقافة "الماكدونالدية" المؤسسة على الوجبات السريعة والفنغرتشيبس والكوكاكولا أو مماثلتها ثقافة الرخاء العربي الإستهلاكي السقيم في الخليج العربي، أو كموروث إجتماعي كما كانت عليه كروش الموسرين التقليدين من أبناء الطبقة المتخمة الحاكمة في النصف الأول من القرن الماضي، أو نتاج لإستهلاك كميات البيرة كما في المانيا وتشيكيا. "الكرش العراقي المعاصر" هو ظاهرة عامة حديثة في التاريخ العراقي، ظاهرة عابرة للأعمار والطوائف والمواقع الاجتماعية والطبقية ، مما يؤهله ليكون مدخلاً لدراسة الأقتصاد والسياسة وعلم الإجتماع والسايكولوجيا في عراق اليوم. أن مشكلة الكهرباء وموت الزراعة والصناعة العراقيتين ووجود اللصوص في قمة الهرم السياسي، وكثرة حالات الطلاق والكسل الذهني والبدني المصاحب بإفراط في إستخدام الموبايل والفيس بووك ومايتفرع من هذه المشاكل، كلها يمكن الدخول لها ومعرفة أسبابها عبر دراسة ظروف وغايات صناعة هذا الكرش الذي تم الإعداد له بصبر منذ حرب عاصفة الصحراء. "الكرش العراقي المعاصر" تجسيد عملي جلي للسياسة الأمريكية التي لاتتضح لا في مفهوم "الإحتواء المزدوج" ولا مفهوم "الفوضى الخلاقة"، بل في هذا الكرش الذي أتى في أعقاب تجويع دام عقد كامل.أتى بعد إعداد أمريكي نفسي طويل، وتهيئة، ووعود لشعب جائع مدمى، بجنة الأعناب والأرطاب ولحم الغنم، وبعد أن تم تعيين المقاولين، والموردين الرئيسيين، والثانويين، ورؤساء فرق حماية الحرامية، والمشرفين على إعداد وتوزيع البطاقة التموينية ووكلائهم، بعد أن تم هذا كله ، فتحت أمريكا " باب التغيير الديموقراطي" وإبتدأ سباق الإلتهام ! كان لابد، من أجل ضمان نجاح الخطة، أن يعلن أولاً عن موت الثلاجة العراقية بعد أن تدخل الكهرباء غرفة الأنعاش ، عندها لابد أن ترفع البيوت العراقية شعار " بالبطن ولا في الزبالة" وكانت المكاسب هائلة ، شركات أمريكية وتركية وايرانية وصينية وهندية صبت ملايين الأطنان من إنتاجها الصالح وغير الصالح للإستهلاك في فم العراقي الجائع مقابل عمولات وإتفاقات ورشاوى، ولأن العراقي مجوّع بقصد وسابق إصرار، كان يتوجب أن تحبك الخطة بحيث لا يتوفر لديه الدافع للإهتمام بمايسمى "المنتوج الوطني" الذي كان يحتاج وقتاً ودعماً من حكومة وطنية لاوجود لها في الواقع، ومن أجل هذا سوقت إيران بإعتراف الإيرانيين أنفسهم منتوجات بسعر النقل فقط كي لاتنهض مثيلاتها العراقيات، ومثلها فعلت تركيا... في معظم التظاهرات الإحتجاجية " التي لا تتبناها مرجعيات دينية" تلاحظ ظاهرة هي أن عدد المتظاهرين في العاصمة العراقية لايتجاوز المئات القليلة . عاصمة بخمسة ملايين إنسان تتعرض يومياً لإنتهاك فض لكرامتها ولسلامها وأمن أهلها ، مع كل هذا لا تفلح بحشد حيين من أحيائها المتخمة بالبشر فتعبر عن رأيها! ما الذي حصل ؟ جبُنَ الشعب؟ أم ترهل و تكرّش بأعقاب حصار لم يكن يتصوره سينتهي! .كلاهما. السبب الأول نتيجة للثاني. هذا الشعب لايريد المجازفة بالتضحية بالراتب الذي يستلمه في أحيان كثيرة بدون عمل وفي أحيان أكثر وهو جالس في البيت، وكلما هم بالنهوض لوحوا له بالحصار وبالبعثيين صنّاع الحصار والدمار. لكن ماهي سلطة هذه الحكومة على شعب يعيش في ظروف " ديموقراطية"؟ لربما أمكن تعريف الحكومة الحالية بأنها مالكة أكبر إحتياطي من العاطلين عن العمل الموظفين في أجهزتها بدون إنتاج، هم موظفون بلا مهام واضحة ومحددة ، مكرشون، راضون بالكرش عنواناً للعافية و" الرخاء" والإسترخاء ، ولكي يستمر الحال، هم مطالبون بإبداء الولاء والتأييد لولي النعمة الذي يملك 20% من الذكور كافراد في القوات المسلحة ،الشرطة، والحمايات التي لم تفلح في الحد من تدفق الدم اليومي في الشوارع فيما يشتغل 12 % من السكان في وظائف معظمها ملفقة تستنزف الموارد التي تذهب 80% منها الى الميزانية التشغيلية . إنها سمات تعريفية للإقتصادات الريعية، غير المنتجة، التي تقف وراء خلق المجتمعات البليدة، المشوهة، المتخلفة حضارياً، المنشغلة بتناحرات وفتن مذهبية غابرة، والزاهدة عن العلم والثقافة، والمتجهة للإستهلاك فقط. لكن ، الى متى يبقى العراقي بعيداً عن إدراك خطورة المنحدر الذي سلكه ؟ الى متى يصرف النظر عن التساؤل المهم عن مرحلة مابعد النفط وما بعد سدود تركيا ، ولاينتبه الى أن سبب كل آلامه ومعاناته وأزماته هو هذا البلاء المسمى بالنفط الذي يتخيله نعمة ؟ هذا النفط الذي يطعمه دون عناء ولا جهد ولا إعمال فكر؟ هذا النفط الذي كان سبب الحصار وسبب التكرش؟ في أيلول 2011 تحارش مجلس النواب لأسباب مختلفة المصدر والاهداف فطرحت قضية تشكيل مجلس النفط والغاز وأحست الحكومة بدنو الخطر فحاولت أن تصر على ان يكون المالكي رئيسا للمجلس ولما أدركت إستحالة قبول ذلك ، وفي تلك اللحظة العصيبة التي كادت أن تنتهي بإعلان المعركة الكبرى بين الشعب والسلطة وكشف المستور تمكنت المرجعيات بسرعة خارقة من سحب الموضوع الى ساحة التراضي بعيداً عن عيون الاعلام واستلمت الأطراف حصصها: الوقف الشيعي والوقف السني والعشائر والكتل السياسية. تبدو السلطة الآن واثقة من نفسها وتحالفاتها وإمكان إرشاء أي معترض بمنصب أو حصة من بقايا البلاد مادام الكرش هو هدف الجميع.