الاحتلال البريطاني ــ الاحتلال الأمريكي تعدد أدوار .. وحدة هدف (مسبل ـ بريمر)

 

 

 

 

 

 

في (6 تشرين الثاني1914) نزل في الفاو جنود الحملة البريطانية القادمة من الهند تحقيقاً لأطماع توسع بريطانيا العظمى ، بعد أن انتهى عهد الاحتلال العثماني بسقوط ألمانيا الهتلرية وحلفائها، فكان العراق حصة الاحتلال الجديد .
تأكد ذلك الاحتلال بقرار الانتداب البريطاني على العراق من قبل عصبة الأمم بناءاً على رغبة المحتل الغاشم ، فكلفت حاكمها العام على العراق (A.T.W) أن يقدم لها تقريراً مفصّلاً عن الوضع في العراق، فتم إعداد التقرير المسمّى بـ(الكتاب الأبيض).. رُسِمَتْ فيه الحكومة العراقية الحديثة .
تؤكد الجاسوسة البريطانية الخطيرة (مس بل) في ذلك التاريخ .. 1914على وجود خلافات بارزة في العراق بين السنّة والشيعة ، وأنَّ هنالك خلافات سكان الريف وسكان المدينة ، وتشكك في نزاهة الرموز والقيادات الثورية الوطنية ، وبعلماء الدين .. وتتهمهم بالعمالة لإيران وتركيا ، وكانت تعارض تشكيل الحكم الوطني في العراق . 
(مس بل) جاءت إلى العراق قبل الاحتلال بصفة سائحة ، أتقنت التحدث باللغة العربية ودرست في الشؤون العربية والعراقية، اهتمت كثيراً بالتنقيب عن الآثار العراقية ، فأسست دائرة الآثار العراقية والمتحف العراقي ، أنيطت لها المسؤوليات البريطانية منذ 26/6/1916 حتى وافتها المنية في 12/7/1926 وهي مدفونة في المقبرة المسيحية في ساحة الطيران ببغداد.
لقد كان للحوار المتبادل بين ابن سعود وامتداد آماله العريضة إلى البحر ، وتخوّف شيخ المحمرة من سلطان شاه إيران عليه ، وتخوّف أمير الكويت من سلطة الدولة العثمانية ، إضافة إلى تضعضع حكومة السلطان العثماني ، بحيث وصفت بالرجل المريض ، فكان العراق تحت الاحتلال العثماني شبه بلد دون سلطه ، مما جعل المشروع البريطاني مؤهلاً لاحتلال العراق ، بصيغة إنقاذه من ويلاته وضياعه ، وإيهامه بالفردوس المفقود .
فكانت المس بل ؛ لولب التحركات الدبلوماسية المؤثرة على رجالات السياسة والدين في صناعة قراراتها الحكومية، لدرجة أنها تسللت ذات ليلة لتلتقي بالسيد عبد الرحمن النقيب (الذي قدّم داره هدية إلى رئيس الحكام السياسيين السير برسي كوكس .. دون ضغط )(كما تدّعي مس بل) تعرض عليه رئاسة الحكومة العراقية .. قالت له بالحرف الواحد: إذا ما تقبل الحكومة سوف أعطيها إلى الشيعة (تقصد السيد محمد الصدر) !!! وكانت ذات عداء شديد للشيعة ومراجعهم ، وهم حملة راية الجهاد ضد الاحتلال البريطاني للعراق ، وقد كانت دائرة الأوقاف في العهد العثماني بيد السنـّة ، وحتى لا يستفيد الشيعة منها ، قامت بتأسيس دائرة الوقف الشيعي ، لأن وارد العتبات المقدسة آنذاك كان ضئيلا. وتذكر المس بل أن السيد عبد الرحمن النقيب كان قد حذرها من الاعتماد على الشيعة !!!
والمشكلة أنَّ شيعة العراق لم ينعموا براحة البال .. لا في الاحتلال العثماني بسبب تحريمهم خلافة الحاكم الغير قرشي ، بينما كان المذهب الحنفي يقر الخلافة لغير القرشي ، فأعتقد العثمانيون بهذا المذهب ونشروه مع توسعهم في العالم ، لذلك؛ فهو المذهب الإسلامي الأكثر انتشاراً في العالم .
وتذكر المس بل في مذكراتها ؛ إنَّ أهل بغداد استقبلوا جيش الجنرال مود بالحماس والترحيب. بينما حدثت مجازر من البصرة مروراً بالناصرية والعمارة والكوت شرقاً ، والسماوة الرميثة والديوانية والنجف وكربلاء والحلة ، حتى وصل المحتل البريطاني مدينة بغداد !!!؟ 
تقول المس بل في مذكراتها بأنَّ البريطانيين عززوا فكرة الحكم الذاتي في ذهن أكراد العراق ، بتعاطفهم مع الأكراد واستغلال إجحاف دستور1908 العثماني لحقوق الأكراد القومية ، إلا أن تلك الثقة تزعزعت لدى الأكراد بعد غزو الروس لإيران ودخولهم خانقين عام 1918والمآسي المحزنة التي عاناها أكراد خانقين من الروس ومن ثم الأتراك، دون أن يستطيع المحتل البريطاني أن يفتح جبهة جديدة مع روسيا وهوفي حرب على ذات الساحة العراقية مع الأتراك الذين كُسِروا في خانقين على أيدي الإنكليز فيما بعد .
وبسبب المذابح القومية التي حدثت بين الأكراد والأرمن (1856ـ 1915) ــ التي راح ضحيتها أكثر من مليون أرمني ونصف مليون كردي ــ بقي القلق الكردي من الغرب مرّة ؛ خوفاً من مشروع الدولة الأرمينية الكبرى التي يساندها الغرب المسيحي ، وبين الخوف من العثمانيين ودستورعام1908.
ومما تذكره المس بل في مذكراتها ؛ أنَّ القضاء العراقي كان يتكون من المحاكم الشرعية والمحاكم القضائية المدنية التي تستند على الفقه السني الحنفي ، حتى تغيرت المصطلحات فانحصرت المحاكم الشرعية بشؤون الأحوال الشخصية ، وأسست المحاكم المدنية حسب القانون الفرنسي ، ثم فصلت السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية . أما المحاكم الشرعية للأحوال الشخصية فكانت حسب الولاية ، بمعنى ؛ أنَّ الولايات السنـّية تستند على الفقه السنـّي ، والولايات الشيعية تستند على الفقه الجعفري.  
وبالنسبة للقضاء الجنائي تم إصدار قانون العقوبات البغدادي .. وهو مستند على قانون العقوبات العثماني .. الذي يستند على قانون العقوبات الفرنسي بتعديلات عن القانون المصري ، وقانون أصول المحاكمات الجزائية البغدادي ..الذي يعتمد على قانون أصول المحاكمات السوداني .. الذي يستند على القانون الهندي والقانون العسكري البريطاني والفرنسي والعثماني .
لقد شكل المرجع الشيعي الإمام الشيرازي (زعيم الثورة بعد السيد محمد كاظم اليزدي الذي توفي عام 1919) حكومة إسلامية في كربلاء المقدسة من مجاهدي الثورة العراقية الذين قاوموا الاحتلال الغاشم ، إلا أنَّ الحكومة البريطانية أذعنت إلى قبولها تشكيل حكومة ملكية بقيادة الملك فيصل الأول ، فقد حرّم العلماء والمجتهدون في النجف الأشرف التصويت على حكومة لا إسلامية ، إلا أنهم قبلوا بخيار حكومة يرأسها الملك فيصل الأول اعتزازاً بنسبه القرشي الهاشمي الحسني ، بصفته الخيار الأفضل من خيار حكومة بريطانية تطيل سيطرتها على البلاد والعباد .
 لحد الآن لم يؤشر التاريخ نقاطاً سوداء على هذا الرجل الشريف ، حتى أنَّ حكومة صدام حسين وضعت له نصباً يخلده في أبرز ساحات العاصمة العراقية بغداد،لازال منتصباً حتى اللحظة. وهذا يعني أن الملك فيصل الأول مشترك مقبول تاريخياُ لدى كافة الأحزاب السياسية ، وإنْ اختلفت .
والحالة هذه؛أترك للقارئ الكريم استنباط الدروس والعبر ، بما يغني الحس السياسي بالمضامين والعبر، فقد آثرتُ أنْ أترك للقارئ الكريم معرفته بالأدوار التي لعبها (بريمر) بعد 2003 ، وإنَّ الحديث عنها يعني الإسهاب ، فالجميع قد عاصره قريباً ، فالحديث الذي يهمنا ؛ هو أن نستحضرَ الخفيَّ من التاريخ ، لعله انزوى بين تلافيف الذاكرة العراقية التي أتعبتها الأزمات والآهات ، فآثرتْ النسيان .
 والله من وراء القصد