انه الحق يا صديقي

 

 

 

 

 

 

عندما يتربى الانسان ضمن بيئة فيها التاريخ مزيف ويدرس في منظومة تربوية لها اهداف وعقيدة ترسخ احترام الحاكم وتجعله فرض واجب يفوق كل الواجبات الاخرى تصدمه الحقيقة الغائبة عنه في يوم ما وتنكشف العتمة والغمامة التي قيدت تفكيره ورسخت في دماغه افكار مرسومة واحكام مسبقة عن رموز وشعوب لم يلتقي بها مسبقا او تعامل معها من قبل.

فمثلا اننا تربينا على معتقد او فكرة رسختها النكته او الذاكرة الشعبية ان اهل الموصل بخلاء ولكن عندما تعاملت معهم وزرتهم في ديارهم كانوا قمة الكرم والعطاء وهكذا هي الافكار الاخرى المسبقة التي نصطدم بكذبها و نعرف بعد حين كم هي واهية لاننا عممنا فكرة مسبقة على مجتمع كامل وبيئة كاملة من خلال تجربة فردية او ذاكرة مجتمعية وجعلت من تعاملنا معها حقيقة ترسم تحركاتنا وتفاعلاتنا مع هذه البيئة المؤطرة بافكارنا واحكامنا المسبقة.

في عام 1982 قبلت في كلية طب جامعة صلاح الدين في اربيل (هولير) كان في اذهاننا افكار واحكام مسبقة عن اربيل واهلها وطلابها ولكن صدمنا حسن التعامل والاخوة والطيبة من اهلها وتعمقت علاقتنا معهم وهكذا في القسم الداخلي كان طلاب من الحويجة والشرقاط وتكريت وكركوك والموصل ودهوك والبصرة وميسان والكوت والناصرية والنجف وكربلاء والحلة .

عرب وكرد وتركمان وايزديين واثوريين .مسلمين شيعة وسنة ومسيح وصابئة. ومن اقطار عربية من الاردن واليمن وتونس والسودان وكينيا وزائير وماليزيا.

ان القسم الداخلي كان بيئة هجينة من كل الاجناس والاديان تعلمت من خلالها ان التعامل الانساني مع الاصدقاء هو انعكاس للنظرة والتعامل المكنون في نفسك البشرية ومدى تقبلك للاخر سيكون رد الفعل المقابل بطيبة وحسن تصرف في بيئة الغرباء يجمعهم امل التعلم والتفوق وان يكونوا اطباء المستقبل من اجل تخفيف المعاناة الانسانية من المرض والالم وتحقيق حلم عوائلهم.

انها تجربة ثرية تعلمت منها الكثير وترسخت فيها علاقات استمرت لوقتنا الحاضر رغم مضى عليها ثلاث عقود ونيف من الزمن.

ولكن من خلال هذه التجارب كانت هنالك تجربة مميزة فيها دروس وعبر في كيفية مسح الفكرة المسبقة او الاحكام المترسخة في العقل البشري تجاه تاريخ انساني انها شبيهة باعادة فرمتت ذاكرة الكومبيوتر وتخليصه وتحريره من بعض الانشطة والافكار المترسخة انها عملية غسل دماغ ولكن بالحقائق والادلة الدامغة انها عملية غسل دماغ عفوية.

كان هنالك طالبا اردنييا من مدينة السلط ضليع باللغة العربية والشعروالفقه والتاريخ من عائلة ادبية وعشائرية معروفة بدوي الطبائع لا يجامل ابدا جدي في تعامله مع الاخرين .سلفي الفكر اخواني (الاخوان المسلمين) الهوى كان عاشقا لافكارهم بل حافضا لتراثهم على ظهر قلب كل ما كتبه جمعة وحسن البنا وسيد قطب معتمدا في احاديثه دوما مقتطفات حافظها ظهرا عن قلب من كتب حسن البنا (تحت ظلال القراءن) مفعما بالتاريخ العربي ورموزها كان عنده هارون الرشيد والمامون والمعتصم بمنزلة الانبياء والمصلحين وكان دائما اذا غثه او اغاظه احدهم كان ينادي بصورة عفوية ومعتصماه وصداماه . في رحلة هذا الطالب من عمان الى اربيل عبر بغداد ترسخت لدى اصدقائه الاردنيين المبتعثين معه انه صعب المراس وصعوبة التعامل معه والعيش معه.

صديقي الطالب الاردني كان عاشقا للعراق وبغداد عبر التاريخ عاشقا لصلاح الدين الايوبي عشق ازلي عندما ينطق اسم بغداد يضيف لها بغداد المنصور والرشيد وعندما يذكر سامراء كان يضيف لها سامراء المعتصم وعندما ينطق اربيل كان يضيف لها اربيل ابن خلكان وعندما ينطق ميسان كان يقول ميسان عبدالله بن الزبير وهكذا كل مدينة ينطق اسمها يضيف لها اسم تاريخي .

كان العراق وقتها يعيش الحرب العراقية الايرانية والعقول العربية تستحضر الصراع التاريخي بين العرب والفرس وتناست الانصهار القومي في بودقة الدين واثراء الفكر العربي من قبل الادباء والشعراء والعلماء والفقهاء الفرس في نهاية العصر الاموي والعصر العباسي لتصل ذروة الانصهار في زمن المامون لتكون الحضارة الاسلامية الزاخرة منبع الفكر الانساني وقتها.

زميلي الطالب الاردني وصل بغداد في بداية العام الهجري وقتها وكان في الثامن محرم ومن حظهم ان السائق الذي اقلهم من مطار بغداد شاهدهم صغار السن وشباب وهم طلبوا منه فنادق امينة ومناسبة السعر فاخذهم السائق الى فنادق مدينة الكاظمية المقدسة وهنالك كانت محطتهم الاولى في بغداد الرشيد كما يقول صديقي الاردني .انهم بعد استراحتهم من عناء السفر والنزول الى شوارع الكاظمية كانوا يشاهدون واقع جديد لم يعهدوه في بلدهم الاردن .كان الناس يقولون لهم تفضلوا واهلا وسهلا بكم كلوا واشربوا فذاقوا الهريس والتمن والقيمة والاْش وتشريب اللحم وشربوا الشاي واللبن والدارسين وكل ما ارادوا ان يدفعوا ثمن اكلهم يقولوا لهم انه في ثواب ابي عبدالله الحسين . انها تجربة ومفاجئة اذهلتهم لم يعهدوها من قبل او سمعوا عنها لم يشاهدوا كرم وعطاء مثله في هذا الكرنفال حتى احدهم اتصل باهله وقال لهم لاتبعثوا لي مصروف بعد الان لان العراقيين يوزعون الاكل والشرب مجاننا في الشوارع ضاننا انها تجربة مستمرة.

بعد وصلهم القسم الداخلي وتوزيعهم على الغرف رفض جميعهم السكن مع زميلي الطالب الاردني مما اضطر مشرف القسم التوسل بي ان يكون سكنه معي في غرفتي فقلت له اهلا وسهلا به وهكذا تعاملت معه بصورة طيبة وكانت السنة الاولى صعبة في كلية الطب لانها انتقالية من الاعدادية الى التخصصية وكانت الدراسة باللغة الانكليزية فكانت الاحاديث والنقاشات قليلة وهكذا تناولنا معا الدبس والراشي والزيت والزعتر والجبن والاكلات الاردنية والعراقية مما تبعثه والدتي اسبوعيا مع احد السائقين على خط اربيل بغداد وهكذا بدأ صديقي الاردني في الاندماج وتغيير بعض طبائعه ولاحظه زملائه الاردنيين المبتعثين لان بعضهم يهمس في اذني ويقول الله ينطيك العافية ويعينك عليه.

في بعض الامسيات والجولات في اربيل يتحدث صديقي عن السلفية والتاريخ والشعر والادب وانا دائما احاول الابتعاد عن الخوض في النقاش في مسائل الدين وقتها للظروف الامنية المحيطة انذأك ولكني في قرارة نفسي وضعت خطة منهجية لتغيير فكر صديقي من شؤائبه تلك وهي طريقة الاصطدام المكاني والزماني وفي عطلة نصف السنة قرر صديقي عدم السفر للاردن والبقاء في العراق فقلت له اهلا وسهلا بك تفضل معي الى البيت في بغداد وسنعمل جولة في تاريخية في العراق وكان سؤال صديقي في بغداد اين قبر هارون الرشيد واين قبر المنصور والمامون في بغداد ونحن نسير في اروقة الجامعة المستنصرية في شارع النهر ايام الزمن الجميل قلت له لاوجود لقبورهم لان مكانتهم انتهت بموتهم وفي بغداد مزارات للامام موسى ابن جعفر وحفيده محمد الجواد عليهم السلام والامام ابو حنيفة النعمان والشيخ عبد القادر الكيلاني ومزار سلمان الفارسي والحذيفة بن اليمان واما الخلفاء والحكام لم يبقى لذكرهم غير اطلال بنوها وفي واسط قبر المتنبي وفي قلعة صالح قبر عبدالله بن علي ولا قبر لعبدالله بن الزبير ومزار نبي الله العزير وهكذا زرنا النجف وهنالك صديقي اصابه الذهول وهو يرى قصر امارة ابن زياد خراب وطلل ومسجد الكوفة ومزار مسلم بن عقيل سفير الحسين شامخا ومزار ميثم التمار ذهل صديقي وهو يقول انه عقاب التاريخ للجلاد ونصرة الضحية .

وفي زيارتنا الى الحضرة العلوية ذهل صديقي وهو يرى قوافل التوابيت المؤطرة بالعلم العراقي من ضحايا الحرب الطاحنة وهي تحمل على الروؤس وهي تطوف حول المرقد الشريف وذهل بكذبة الاعلام العربي المزيف عن خطر الشيعة وقال لي اليس الشهداء شيعة وهو يقاتلون جيش ايران تحت راية الامام الخميني قلت له انه الصراع ليس من اجل الدين او المذهب انه صراع الهوية الوطنية .وكان ذهوله اكثر عندما شاهد مقبرة السلام وقال انكم تقدسون الموت اكثر من الحياة ....قلت انها جدليتنا منذ كلكامش في معرفتنا بالموت هو ان نتعلم كيف نصنع الحياة وستراها في زيارتنا الى كربلاء ونحن في حضرة الحسين وحواريه من الشهداء.

في كربلاء اول مرة اشاهد انسان يبكي بخشوع وذل كان صديقي السلفي يبكي بحرقة وهو يشاهد دموع الزائرين هل هي قدسية وانبهار المكان الجمعي ام تغيير الفكر في الدماغ المحشو بافكار واهية عن الدين والرموز التاريخيين وهو يقول الم يكن للحسين وابن زياد حل اخر غير السيف والدم والموت.......

قلت له ياصديقي عندما يقف الحق عاجزا عن مجارة الباطل لابد من ضحية تكون مشعل تنير درب السائرون على الحق وتكون نبراسا وعنوانا للثائرين الم يقول رسولنا صلى الله عليه واله الاطهار عليهم السلام ان الحسن والحسين سيدا شباب الجنة......

قال لي بلى.......

قلت له ان الجنة مثوى الشهداء فجري بسيدها ان يكون قمة في التضحية والايثار والشهادة.....

بكى صديقي وهو يصلي ويدعوا الله ان يكون على درب الحسين في الشهادة والايثار وظل يردد لماذا لم يعلمونا التاريخ الصحيح لماذا.......

وكانت رحلتنا الاخيرة قبل عودتنا الى كراسي المعرفة والدراسة في الفصل الثاني هي سامراء وكنت مخطط للرحلة ان تكون الضربة القاصمة للافكار الخاطئة في ذهن صديقي وهكذا بدأت زيارتنا من ابي دلف و القصر العاشق والجامع الكبير والملوية وعند صعودنا الملوية واستقرارنا على قمتها قال لي صديقي اين قبر المعتصم والمتوكل .....قلت له لا قبور معروفة لهم.....

قال لي اذا ما خطب تلك القباب الذهبية التي تزيين المدينة لمن اذا......

قلت له تلك القبب هي للامامين علي الهادي والحسن العسكري عليهما السلام وعاشا في نفس زمان المعتصم والمتوكل.......

كان ذهوله صديقي شديد حتى خفت عليه ان ينتحر ويرمي بنفسه من الملوية...........

ولكن صديقي بكى وهو يقول انهم على حق وهولاء على باطل وان عمر الباطل قصير وعمر الحق طويل وخالد والسلام على بيت ال النبوة الاطهار والصلاة والسلام على جدهم المصطفى المختارطوال الدهر والزمان.....

وهكذا عند عودتنا الى القسم الداخلي الجديد بدأ صديقي في تغيير نمطية سلوكه وتعامله مع الاخرين فكان مرغوبا من الجميع وزملائة المبتعثين الاردنيين يقولون دوما الله ينطيك العافية اصلحت لنا ِ شائنه.

وهكذا استمرت رسائلنا وتواصلنا معه حتى حضوره موتمر طبي في العراق فكنت في استقباله في مطار بغداد وفي طريق بغداد وهو يشاهد التشدد الامني والمساحات الخضراء والزهور سالني عن صورة كانت في طريق المطار فقلت له انها الشهيدة بنت الهدى التي اعدمها صدام ...فقال صديقي الم اقل لك من قبل طريق الظلم قصير وطريق الحق هو الباقي والخالد ولكن علينا الاصرار على الحق وكما وعدنا الله في كتابه الحكيم ان الله ناصر الحق وصدق الله وعده والله ناصر المؤمنين.....

قلت له نعم يا صديقي علينا دوما نتعامل مع التاريخ بعقلانية ووعي دائم لان التاريخ يكتبه المنتصرين.